لحظة مرور عيني نحو سجادة السماء المظلمة وجدت بقعة فنية يصعب تفسيرها أو نسيانها، تبدو وكأنما أجرام السماء الشقيّة أطلقت الريح.. فأمتزجت بغبار الكون الذي سرعان ما تستر على الكارثة مُشكّلا ذلك المزيج المبهر من الألوان. حينها راجعت ذاكرتي عن بعض من صفحات علوم الفلك، وأدركت أنها السٌدم! فماهية السدم ليست غامضة بالرغم من قدرتها على ابهارنا و اعجاب سكان الأكوان. فالسدم في تكوينها البريء: أجرام سماوية ذات مظهر منتشر غير منتظم مكون من غاز متخلخل من الهيدروجين والهيليوم وغبار كوني.[2][3][4] وأحد أشهر سدم السماء لهواة الفلك هو سديم الجبار.
وذات الأمر هي النفس البشرية في مختلف أعماقها؛ الرغبة، الخوف، الفضول، الغريزة. الى أن يحدث تصادم في دواخل تلك النفس، وبدل من تكون تشوه داخلي ناتج عن معانتنا، فتتجلى مظاهر الجمال الروحي الذي يفتت تكوّن الأنا من جديد وذلك يعرف بالسديم. في جميع الأحوال، ما اسعى لوصفه من معاني وظواهر قد لا يربط العلوم الكونية و الانسانية بصلة، انها مجرد محاولة لفهم مغالطات فكرية تلحق الأضرار بجدار دواخل النفس، ناهيك الجانب الأدراكي و النفسي.
----------
في شتاء تِـشْرِين الثاني
يهمس أحدهم لبنات أفكاره قبل أن يغفو، ويقول: ايها الليل المحير ، دعك من همسات سكانك و مجالس الحوريات، وايضا، تأمُّل أدعية الخاشعين، و قصائد العاشقين وتنفس الغابات.. لم لا شيء يتوقف او يمل في تلك الحياة ليل او نهار... ولا تحلو الخلوة وحديث النفس الا بمثل هذه الأوقات. حيث يستيقظ ضمير رجل ما... وينسى الشباب عَدّ ما تبقى من احلامهم المبعثرة. أما انا سأطفئ لك الغلاية التي في عقلك وسأدعك تجالس الليل دون تدخل أو ازعاج. دون انشغال بالساحة التي يملأها الغبار الكوني و التي دوما تحتفي بتوهج نجم جديد و انفجار آخرين...
لبرهة من الزمن، يتصاعد حدث بداخله كاد ان يُنسيه اسمه. رحلة عشق أخرى منسية... لكنه ازاح عبئا غليظا على صدره.. تطايرت الافكار العابثة والعالقة لحظة ان اطلق زفيرا فعبِقَ الجو برائحة زهرة اللوتس و الريحان ثم اعاد الفنجان مكانه بهدوء دون ان يصدر طقطقة ... بعدها استنشق جميع الهواء الذي ينبض به كل كائن على وجه الأرض.. وقام يخطو نحو الفراغ الذي ملأ زاوية غرفته كأنه يستعد لرقصة مع ظلّه، تغلب على ملامحه غيمة من الهيام و الحيرة.
يقف امام شرفته الشاهقة التي يمكن ان يُرى من خلالها محطة قطار توقفت عن الخدمة منذ سنين، وحديقة يزورها المسنين بملابس انيقة تناسب كل موسم من مواسم القرن الثامن عشر... يشاهد المسنين ويتذكر احدى امانيه، همهماته سر لا يسمع ايقاعها غيره، يجاري و يصارع تدفق الافكار تارة بهمهمات و زفير لا ينطق به سوى عاشق يحمل شجاعة و يعلم كيف يسيطر على كل ضيق قبل ان يبتلعه كالسرطان. وترتسم على وجه ابتسامة هادئة تعبّق المكان بطاقة تعيد الموتى الى حياتهم و تفيق الهائمين عن احلام اليقظة.
وبعد إلتقاط الانفاس التي عبأت الغرفة بالعود و ماء اللوتس و التبغ، خطر على باله منولوج متكرر، لكنه انتبه لأمر آخر اعاد ربط حبال الافكار ببعضها؛ هناك بطبيعة الحال كثير من البسطاء، يُملأ جوفهم سريعا بتوالي الايام و تقلب الظروف... ولكن لازال هناك من يتمتعون بقبو روحاني فسيح وساكن وقد ادركوا انه رغم ضيق الافق و استعداد النفس للأرتقاء لكنها معضلة العقل وحسب. ان لم يكن هناك تفاوت بين العقول وشفافية الأنا او تصلبها لأصبح العيش اكثر تعقيدا. انما الروح فلا يحكمها قوانين الطبيعة وقيود المادة. لكن ذلك امر مفروغ منه وبالكاد تكرر على مسامعك.... ماحدث بعد ذلك هو حتما لم يكن بالحسبان ولم يتوقعه حتى نديم.....
هزة أرضية! ...
كانت ليلة من الليالي يستعد بها للرحيل ، ويجهز حقيبة السفر دون سابق انذار، دون وداع لعاشق او صديق. وكأنه سيركب قطار النوم المتجه لأسوان. الحقيقة انه اختار وسيلة سفره الأولى القطار لكن لمجرد انها اقل تكلفة وتضمن نسيان المسافات وتبدد الارهاق. لم يكن بباله اي فكرة عن المكان الذي سيذهب اليه، ولم يستطع استحضار اي فكرة عن المستقبل ، اول مرة يسافر دون تجهيز مسبق ، دون غاية مقصودة ، وبإبتسامة مرتسمة توحي بالثقة.
يتبع
‐-------------------------------
ما بعد الهزة الأرضية..
في يوم اشبه بموعد الحساب ، ونفق سرمدي مضيء كنجم لامع وسط مجرة مظلمة، لا يمكن حقا التفرقة اذا كان نفق ام عالم أسفل عالم اخر ، ذلك ما سيوحى اليك من ارتفاع الجدران و وانعدام وجود تيارات للهواء، كما أن النهار يبدو ليل والليل نهار. كل شيء مثير للفضول و الحيرة..
ولم يعد يبقى هناك سوى ثلاثة ، أحدهم ذهب نحو احد المخارج السرمدية المظلمة و كأنه تلقى نداء.
يتبقى اثنان ، قد تعرفو على بعضهم البعض من الأسماء التي علقت حول معصمهم بسلسلة انيقة نحاسية مطلية بالذهب؛ أحدهما يدعى "تميم" و الأخرى "سمر". يتسامران فيما بينهم كأنما قضوا العمر كله في ذلك النفق السرمدي حتى اعتادو على بعضهم البعض و لم يعد يخطر ببالهم السؤال عما أتى بهم الي ذلك النفق...
بينما يتناولان اطراف الحديث حتى يلتمسون اعماقه ويدور بخُلد كلاهما شريط حياتهما حتى يتوقف عند ذكرى تربطهم سويا في عالم آخر. وفجأة تصبح الأجواء حولهم هادئة كأنها كانت مزدحمة منذ قليل. ويدركون شيئا فشيئا ان امر غريب قد حدث، تزداد حدة الاضواء كأن الشمس أشرقت وانارت ذلك النفق المعزول. ثم يفيق كلاهما اعلى سطح احد المباني الشاهقة في زمن بعيد مقارنة بالمكان الذي وجدوا انفسهم به منذ قليل...
يدرك نائل اولا كل تفاصيل ذلك المكان وتعلّق ذكرياته بالشوارع المحيطة به، لكنه لا يستطيع تذكر أي بلد تلك، لأنه اعتاد السفر والترحال. بينما "سمر" تجد صعوبة في تحليل ما قد حدث في لحظة. وكأن حياتها وجسدها ومصيرها اصبح تحت تصرف جبروت الهي غامض ورحيم. لكن في تلك اللحظة يزداد خوفها كلما ادركت انها لم تعد تتذكر اي شيء عن حياتها وعمرها منذ ان كانت في ذلك النفق السرمدي. ليس ببالها سوى "نائل"، فتهرول باحثة عنه، وهو كذلك يمشي شاردا لا يفكر سوى بسَمر، حتى يتصادمان وترتسم على وجوههم ابتسامة عريضة.