بِسْم الله.

تحقيقُ  التغيير في الواقع مقصدٌ وغاية لأية رسالة عقدية وأي حراك فكري؛ لا شك، ولكن ذلك لا يعني التقليلَ من شأن من ينزوي مؤقتا للدراسة والتعلم، وينأى بنفسه قليلا عن السجالات ليبنيَ  نَفْسَهُ  علميا، وربما كذلك للتّنظير الذي يسبقُ التّفعيل ومباشرةَ العمل.

دعونا نتأمل بعضَ    ما يُرشدنا إليه قولُه عز وجل: (فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم).

لاحظ أن مرحلة الإنذار والتعليم إنما هي (بعد) الرجوع إلى القوم؛ فالمفهوم إذن هو أن هناك مرحلة (ما قبل الرجوع)، وهي مرحلة الإعداد العلمي، والانهماك في القراءة، والاطلاع. وهذا النفير الذي دلت عليه الآية ليس شرطا أن يكون سفرا أو انقطاعا في مكان بعيد، بل قد تكون عزلة علمية وسط الأحداث.

بل قد يدلُّ  نظمُ  الآيةِ  على أن هذا الانقطاعَ العلميَّ  شرطٌ ( أو: كالشّرط) سابق للتبليغ والإنذار؛ إذ إن شرط الدعوة أن تكون على بصيرة: (أدعو إلى الله على بصيرة).

ثم إن هذه المرحلةَ القبلية ليست بالضرورة مرحلة تعلم أصول العلم؛ بل قد تكون مرحلة تنظير، واجتهاد فقهي عميق، وتحقيق للنوازل وأحكامها يقوم بها العلماءُ  استشرافا للمستقبل، واستباقا لساعة الحاجة: (إذا رجعوا إليهم)؛ فالحاجة قد لا تكون ملحةً  الآن، ولكن ربما في المستقبل. فمفهوم "الرجوع" هنا يشمل عدة اعتبارات. والله أعلم.

وهذا الانعزال -المؤقت ربما- الذي أشارت إليه الآيةُ  قد يُفيد العالِمَ  والمُنظِّرَ  في إصدار الأحكام الصحيحة؛ إذ إن الابتعاد أحيانا يعطي الصورة الأكمل، والرؤية الأشمل؛ بخلاف من هو منهمك في الساحة. تأمّل في هذا السياقِ  قولَ  الله: (إنما أعظكم بواحدة: أن تقوموا لله مثنى وفُرادى ثم تتفكروا). والمسألة نسبية طبعا، وتختلف باختلاف السّياقات.

ودلت الآيةُ كذلك -كما بيّن بعضُ    المفسرين- على أن هذا التفرغَ  والاشتغالَ بطلب العلم والتأملَ والتحليلَ  من قِبل طائفة من المؤمنين [= (فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفةليتفقهوا في الدين)] يتزامنُ  مع قيام البعض الآخر بالنّفير والاشتغال الحربي [=(وماكان المؤمنون لينفروا كافة)]؛ فالدرسُ    المستفاد هنا= هو أنه لا يصح بحال أن ينتقص الفاعلون في الميدان إخوانَهم الذين اختاروا سبيل العلم والقراءة والتنظير كَرافِد ومُكوّن أساس للتغيير؛ فلا يستغني فريقٌ  عن الآخر، وانتظامُ  أمرِ  الأمّة لا يتم إلا بتوزيع الأدوار توزيعا دقيقا، وهذا درسٌ    مقاصدي عظيم في الآية. 

كما يشيرُ التنبيه على طلب العلم في هذا السياق (وهو سياق شبيه بحالة الطوارئ، وإدارة الأزمات) إلى أن العلمَ  رصيدٌ استراتيجيٌ كبير، وأنه من المُحددات التي تحدد موازين القوى؛ فلا ينبغي أن تغفل عنه الأمة في حالةٍ  من حالاتها.

ويظهرُ لي عند تأمّل مَرجع الضّمائر في قوله سبحانه: (إذا رجَعُوا إليهم)؛ أنه "قد" يصح فهمُ  الآية على النحو التالي: يُنذر المتفقّهون أقوامَهم إذا رجعَ أقوامُهم إليهم؛ بمعنى أن الرجوع يكون من القوم إلى العلماء تأكيدا لمرجعيتهم، واحتراما لتخصصهم: (فَسَلُوا أهل الذِّكْر إن كنتم لا تعلمون)؛ فكما أننا نطلب من العلماء أن يمشوا على سَنَن النبوة: (حريص عليكم بالمؤمنين رَؤُفٌ رحيم)،  ويمتثلوا قولَ  الله: (ويمشي في الأسواق)؛ فيبادرُوا هم بدعوة الناس، وينزلوا من أبراجهم العاجية؛ فلا بد كذلك لغير المتخصصين في الشريعة أن يتواضعوا قليلا و"يرجعوا" إلى العلماء؛ أعني العلماءَ الصادقين. (وهذا الوجهُ التفسيريُّ  أطرحُه من باب المدارسة مع القراء الكرام، ولا أجزم به؛ فما زلتُ  أُقَلّبُهُ في رأسي، وأُحلّلُ الاحتمالات، وأبحث في المراجع، ولا أستبعد أن يكون ضعيفا. ولا شك أن التفسير المشهورَ  للآية أوضح وأقوى. والله أعلم بمراده من كتابه.)

وختاما لابد من التأكيد -وباستمرار- على أن الساحةَ تحتاجُ  الجميع، ف (قد علم كل أناس مشربهم)، (ولكل وجهة هو مُولاّها)، وكلٌّ ميسر لما خُلِقَ  له، وأبوابُ  الجنة ثمانية، ورحمةُ الله وسعت كلَّ شيء.

والحمد لله أولا وأخيرا.

طارق.

[ مساء الثلاثاء (٢٠١٧/١/١٧) في القطار من لندن إلى كامبريدج.]