" تكررت أيام القصف ، و تكاثرت أماكنها ، تزاحم البشر في مكان واحد نجا حتي الآن من القصف ، تكاثرت أيضًا التأويلات ؛ من يقصفنا ؟!
انتقلت جدتي للعيش معنا ، لم نعد نأمن عليها وحدها . لم نكن نأمن علي أنفسنا أيضًا فقد طال الدمار الجميع ، و لكن الرفقة تمنح قوة و إن كانت بسيطة .
كان اليوم الجمعة ، أجمعت مع أبي و خرجت معه مع رجال الحي و هم يمرون علي بيوته ، بيتًا بيتًا ليتفقدوا أحوال الناس و حاجاتهم و فقدهم . حتى وصلنا لبيت الفلسطينية و هناك علمت سبب بكائها . قد فقدت أخيها في القصف بالبلدة المجاورة . كان هناك يبحث عن عملٍ يعيش به و أسرته الصغيرة المكونة منه و أمه و ناي ، الأميرة الفلسطينية .
تكفل أبي بهم بعد جدال طويل معهما حتى يقبلا ، عرض عليهما أن يتنقلا للبيت المجاور لنا إن أرادا و لكنهما أَلَفَا بيتهما الصغير هذا . فتركهما مودعًا علي وعدٍ بلقاء أخر غدًا .
تتابعت أيام القصف و لياليها ، فقدنا الكثير من الأهالي . منهم من مات و منهم من رحل من حلب إلي تركيا و مصر و أروربا إن أمكن .
بقينا في حلب برغم ما آلت إليه أحوالها ، بقينا نصمد ضد النيران و الهدم و الدمار ، بقينا و ما بقي شارعٌ كما هو ، و لا مشفي كما هو ، و لا بيت كما هو .
بقينا في قطعة من الجحيم نيرانها مشتعلة و تقول هل من مزيد !
بقينا حتي رحلنا ، لم يعد هناك بدٌ من الرحيل ، لم يعد هناك حياة في حلب بل لم تعد هنالك حلب .
اجتمع من بقي في حلب يتشاورون فينما بينهم عّن نواياهم للرحيل و التغرب .
قرر أبي الرحيل مع من سيرحل بعد صراع طويل مع أمي التي ترفض ، كنت مع أبي في قراره إلا أنّ قلبي يأبي أن تُنتزع حلب منه .
قررت الفلسطينيتان أيضًا أن ترحلا ، لم يطل بهما المقام بيننا ، لكن نظرة عينها الشاردة تقول انها اعتادتا التنقل من هنا لهناك ، هربًا تارة و شجاعة تارة أخري .
تفكرت في حالهما كثيرًا ، كيف تضيق بهم فلسطين فتأتيا إلينا لتضيق بِنَا سوريا أيضًا ؟
هل سيضيق بِنَا ملجأنا الجديد؟ أم أننا سنلقي فيه دفأً يسع الجميع ؟
اتعلمون ما الجميل فلسطين ؟
هناك يرحل شهيد ليولد شهيدٌ غيره .
أطفالها نشأوا في قلب الحرب ، نحن شباب المستقبل بينما هم شهداؤه . أطفالٌ نشأوا علي حب الوطن حقًّا و الدفاع عنه .
و لكني و أمثالي نشأنا في رغد ، الوطن عندنا ليس إلا مكان نضيق به ، يقيدنا بعاداته و تقاليده و حدوده . الوطن ما كان سوى مكان نتشوق أحيانا للهروب منه في أقرب وقت .
الحرب جديدة عليّ ، كنّا نحيا في سلام و ظننا ان السلام دائم . و الآن لا ، لم نعد كذلك !
أُخرجنا من بيوتنا عنوةً و ما عندنا القوة الكافية للدفاع عنها .
أليس هذا هو الوطن الذي طالما تشوقت للخروج منه ؟ ... ها هو ذَا يدفعني للخروج دفعًا !
أيمكنني أنا أن أحمي بيتي و أواجه دبابة بحجر كطفل من فلسطين ؟
لا و الله ، لا املك تلك القوة أبدًا .
لم يخبرونا عن فلسطين و أطفالها الا القليل ،
لم يخبرونا لنتعلم منهم ، لم يخبرونا حتي نغار علي أرضنا مثلهم ، لم يخبرونا حتى لا نصل لتلك الحال أبدًا !
تفكرت بذلك كله حين كنّا راحلينَ باكينَ من بيوتنا ، و هما ترحلان بتلك النظرة الصامدة في عينيهما !
يا للهول ! "
*مرفق صورة من سوريا / عيد الفطر ٢٠١٦