[ إهداء إلى .. ريتشيل كوري .. المسيحيه التي قُتلت من قِبل الجيش الإسرائيلي و هي تدافع عن الفلسطينيين ]
حضرة القاضي …
كم من شخص جلس هنا مكان هذا « الإنسان » متهمًا بجريمة لم يرتكبها ، هي جريمة في نظرك ونظر هيئة المحلفين و لكن في الحقيقة هي مجرد هوية هذا الشخص و من يكون. فتقومون بإقصاء هذا الإنسان بسبب مذهبه أو دينه أو جنسيته أو فكره غير آبهين بكونه إنسان يشعر و يتأثر نفسيًا بهذا الإقصاء !!
حضرة القاضي …
دعني أسئلك انت و هيئة المحلفين .. ( ما هو المعيار الذي تعتمدون عليه عند إطلاق احكامكم ؟؟ ) سوف تقول لي ( القرآن و السنة و المنطق السليم ) ممتاز .. إذًا لماذا القضاة الغلاة من السنة و الشيعة يتبادلون أحكام الكفر وهم جميعًا يحتكمون إلى القرآن و السنة ؟!! ، و لماذا قضاة الليبرالية و السلفية يتبادلون احكام الجهل و التخلف و الزندقة وهم جميعًا يحتكمون إلى المنطق السليم ؟!! .
الإجابة هي كما قال الدكتور تركي الحمد : “ يتضمن الحكم ثنائية تقرير الذنب و البراءة ، استنادًا إلى معيار معين للحكم. و هذا المعيار خاضع للهوى ( الأيديولوجي ) لمصدر الحكم ، حين نكون ضمن حدود مجال الشأن العام “ و قال الدكتور تركي عن ( الأيديولوجيا ) : “ الأيديولوجيا لا ترى إلا ما تريد ان ترى ، ولا تدرك إلا ما تريد أن تدرك : هكذا بنيتها ، و هكذا هيكلها ، فهي في كثير من الأحيان تكّون حجابًا يمنع الرؤية ، و منظارًا قد يؤدي إلى الوهم أكثر من الإدراك و الفهم … “ هكذا تختلف الاحكام بإختلاف الأيديولوجيات. فأنت يا حضرة القاضي عندما تحكم على هذا « الإنسان » بأنه مذنب فحكمك لم يكن مستندًا على القرآن و السنة و المنطق كما تعتقد بل هو مستند على فهمك الخاص للقرآن و السنة و المنطق .. بمعنى آخر انت اقصيت إنسان فقط لانه لم يكن مثلك في دينك في مذهبك في منطقك في لبسك !!
حضرة القاضي …
أنا اعلم بأن إصدار الاحكام هي من الطبيعة البشرية فهي مرتبطة ( بالهوية الإنسانية ) من أنا و ماذا أُريد .. من أنت و ماذا تُريد .. و إذا أختلفنا فيما نُريد فإنه من الطبيعة البشرية بأن يحكم كلانا على الآخر .. هذه هي سُنة الحياة و سنبقى هكذا إلا أن يرث الله الارض و من عليها. و لكن الإشكالية هنا تكمن في حدة هذا الحكم ، فليس كل من اختلف مع رأيك السياسي هو خائن !! و ليس كل من اختلف مع فكرك الثقافي هو جاهل !! و اهم ما أُريد التحدث عنه هو أن ليس كل من اختلف معك في مذهبك أو حتى دينك تحكم عليه بالنار !!! فالجنة و النار بيد الله وحده .
قد يتعجب البعض من كلامي هذا و يرى أنه مخالف لنصوص قرآنية و لكني في الحقيقة استند بهذا الكلام على نصوص قرآنية ، إذًا سنعود مجددًا إلى ( الأيديولوجيا ) و إلى الأدوات العقلية التي تملكها من أجل تحليل النص القرآني و تكوين فهمك الخاص به . و هنا حضرت القاضي نقطة مهمة جدًا ألا وهي أن (( القدسية )) هي لنص القرآني و ليس لفهمك الخاص به ، إذًا يحق لي نقد هذا الفهم المؤدلج و نقد الادوات/النهج الذي استخدمته للوصول لهذا الفهم .
حضرة القاضي …
دعنا نترك الأيديولوجيا التي تُخبرنا بأن مذهبنا هو المذهب الصحيح و أن البقية في ضلال مبين و لنقرأ قوله تعالى : { يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ } ، عندما أقر الله الإختلاف بين بني البشر { وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ } والله اعلم بالنفس البشرية و أنه عند التعدد و الإختلاف ستبدأ ( بالتكبر و الإقصاء و العنصرية ) فأكمل الآية بقوله تعالى : { إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ } لكي يقطع أي وسيلة لتكبر ، و وضع اسس التفاضل بناًء على التقوى التي هي مصطلح عام يشمل الجميع و ليس حصري لفرقه أو مذهب. الإعجاز في هذه الآية يكمن في ( إقرار الاختلاف ) ثم ( وضع اسس التفاضل ) على شي غير محصور على فرقة معينة و بالتالي لا يستطيع أحد أي شخص بأن يحكم بأن هذا المذهب الاكرم او هذه الفرقة الناجية ، الاكرم هم المتقين .. و المتقين لا يحصرهم مذهب.
و أما بالنسبة للأخطاء التي يرتكبها أشخاص ينتمون إلى هذا المذهب او ذاك فهي أخطاء تمثلهم شخصيًا ولا تمثل المذهب كامل ، لغة التعميم لغة ظالمة. و عندك حكمك سيدي القاضي على هذا « الإنسان » الذي يختلف عن مذهبك بالكفر و أن مصيره النار فقط لان هناك اشخاص في نفس مذهبه قاموا بأعمال كفرية فهذا ظلم لهذا الإنسان، الذي قد يكون تبرأ من أعمالهم و لكنك لم تعطيه الفرصة كي يُدافع عن نفسه. فأنت اقمت المحاكمة و حكمت عليه و كرهته و انت لا تعرفه ، و على ذلك قيس صراعات التيارات الثقافية أيضًا. !! فالحمد لله ان مصيرنا بيد الله الرحيم العادل وليس بيد البشر.
حضرة القاضي …
إننا نكرر سورة الفاتحة يوميًا ١٧ مرة ، نذكر فيها قوله تعالى : { بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمـَنِ الرَّحِيمِ * الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمـنِ الرَّحِيمِ } في البسملة اختار الله تعالى اسميه ( الرحمن و الرحيم ) ثم قال { رَبِّ الْعَالَمِينَ } المسلمين منهم و غير المسلمين ثم أكد الله مجددًا بأنه ( الرحمن الرحيم ) ، فالله رحيم بكل خلقه و ليس فقط المسلمين . و حتى عند أجرم خلقه نجد رحمة الله ، قال تعالى يأمر موسى و هارون : { اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى } ومع كل نصوص الرحمة الموجودة في القرآن أو الاحاديث عن رحمة الله ، إلا ان نجد بعض مسلمين يتعطشون إلى التكفير و إلى زج الناس لجنهم !! و يعتقدون بأن ذلك الإنسان الذي يعيش في مدينة ليتشفيل في ولاية اركنساس إذا توفى وهو غير مسلم فهو في جهنم !! وقد يكون هذا الإنسان لم يسمع بالإسلام و لم يسمع برسالة النبي محمد صلى الله عليه و سلم فهذا ممن تنطبق عليه الآية الكريمة : { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً } .
و نحن نعيش و للآسف في زمن تم فيه تشويه صورة الإسلام من ِقبل الجماعات الإرهابية ، فهل تعتقد حضرة القاضي أن هذا « الإنسان غير المسلم » لو قام بالبحث عن الإسلام و ظهرت له صور الرؤوس المقطعة و الجرائم التي ترتكبها الجماعات الإرهابية فإنه سوف يجري إلى اقرب مركز دعوة إسلامية لكي يُعلن إسلامه ؟! هل هذا الشخص سيء الحظ لأنه لم يولد في بلاد مسلمة فهو لن ينال الجنة حتى و إن اعمر الارض و نصر المظلوم و أدى اماناته و لم يؤذي جاره ؟! مالك أيها قاضي لم تقرأ قوله تعالى : { وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا } و لم تسمع بقول الرسول صلى الله عليه وسلم : ( جعل الله الرحمة مائة جزء فأمسك عنده تسعة و تسعين جزءًا و أنزل جزءًا واحدًا فمن ذلك يتراحم الخلق ) . هل تتصور بأن هذه الإنسانية و التراحم الموجود في هذه الدنيا هو فقط جزء واحد و أن عند الله سبحانه تسعة و تسعين جزء . الإسلام هو دين الرحمة و دين الإنسانية و ليس دين المحاكمات و الإقصاء
يا حضرة القاضي …
إن كنت سنيًا فرفقًا بهذا الإنسان الشيعي .. و إن كنت شيعيًا فرفقًا بهذا الإنسان السني .. إن كنت مسلمًا فرفقًا بهذا الإنسان المسيحي او اليهودي او ايًا كان ..
يا حضرة القاضي ... رفقًا بهذا الإنسان الذي أجلسته على كرسي الإتهام و تريد الحكم عليه .