للدكتور كمال عبدالقادر
الفرق بين إقتصاد الدولة المتقدمة و إقتصاد الدولة النامية هو أن النوع الأول قائم على الإستهلاك المحلي و تشجيع الإستهلاك و الاستيراد ، بينما النوع الثاني قائم على التقشف و الإدخار و التصدير. الإقتصاد المتقدم لديه فائض رأسمالي كبير و عملة نقدية غالية بين عملات العالم و مستوى معيشة مرتفع ، لذلك يحتاج هذا الإقتصاد للإستهلاك من أجل دوران العجلة ... و لو تعطل أو نقص مستوى الإستهلاك لدخل الإقتصاد حالة ركود و إنخفض مستوى النمو أو حتى بدأ في الإنكماش. لذلك بعد حادثة 11 سبتمبر في أمريكا ، طلع جورج بوش إلي الشعب الأمريكي يدعوهم للإستهلاك لدفع الإقتصاد الأمريكي إلي النمو ... و قامت الحكومة حتى بدعم تسهيلات للإقتراض بطريقة متطرفة مما أدى إلي إنفجار أزمة الرهن العقاري بعد ذلك في 2007.
إنما إقتصاد الأمم الفقيرة النامية لا يتحمل الزيادة في الإستهلاك أو الاستيراد بنفس الدرجة ، لان هذة الدول تعاني من عجز مالي مزمن و تعتمد في نموها على العملة الصعبة التي تحصل عليها من الدول المتقدمة عن طريق تصدير السلع الرخيصة إليها ، و التي ينتجها عمال يعملون كالعبيد بأبخس الأجور و في أصعب الظروف. و فائض القيمة من الإنتاج و التصدير هنا يتم إدخاره عن طريق الحكومة و الطبقة الرأسمالية الغنية بحيث يعاد تدوير هذة المدخرات في مشروعات رأسمالية تعتمد على التصدير و تدر المزيد من الدخل.
الصين مثلا و لمدة ثلاثين عاما متتالية منذ ان بدأت سياسة الإنفتاح الإقتصادي بقيادة دنج تشياو بنج ، تحملت هذة التضحيات و إعتمدت على التصدير للخارج بشكل رئيسي و على جذب الإستثمارات الأجنبية بواسطة عمالة رخيصة و بنية تحتية تتطور بإستمرار كلما تراكمت مدخرات الصينيين ، و سياسات إقتصادية مرنة من أجل إنشاء المزيد من المشروعات و الشركات. و ظلت الصين على هذا المنوال لأكثر من ثلاثين عاما و هي تحقق معدل نمو سنوي حوالي 8% (أكثر او أقل من ذلك أحيانا) و هو الأعلى في العالم و الأكثر استمرارية على الإطلاق. و بهذة السياسة و عن طريق الحفاظ على عملة رخيصة تجعل السلع الصينية رخيصة الثمن أغرت العالم كله بالإستيراد من الصين و بالتالي إستطاعوا تكوين مدخرات هائلة و الإنفاق على بنية تحتية جبارة و تحقيق معدلات نمو مثيرة للإعجاب هي الأفضل في العالم ... و هو ما نقل اكثر من 600 مليون صيني من تحت خط الفقر إلي مستوى معيشة أفضل.
لكن مشكلة الإقتصاد النامي القائم على التصدير أن الدول النامية المصدرة تعتمد على قوة العملة الأجنبية و استقرار الإقتصاديات الأجنبية. يعني الصين مثلا إستطاعت أن تتخطى إقتصاد ألمانيا و اليابان و لم يعد أمامها غير الإقتصاد الأمريكي كي تتخطاه و تصبح أقوى إقتصاد في العالم ... برغم إنخفاض مستوى الدخل و مستوى المعيشة و القوة الشرائية للمواطن الصيني مقارنة مع نظيره في البلدان المتقدمة(لان تعداد السكان يزيد عن 1.4 بليون نسمة).
إنما لأن الصين تعتمد بشكل رئيسي على التصدير خصوصا لأمريكا و أوربا فهي تحتاج من المواطن الغربي و من الإقتصاديات الغربية أن يكونوا قادرين على شراء و إستهلاك السلع الصينية الرخيصة. و بالتالي في كل مرة كانت أمريكا أو أوربا يتعثرون إقتصاديا أو يعانون من الركود كانت الصين تقرضهم أموالا عن طريق شراء أذون وسندات خزانة ، حتى يستمروا في الإستيراد من الصين و تحفيز الإقتصاد الصيني لمزيد من النمو ... مما جعل الصين أكبر دائن لامريكا و أكبر شريك تجاري بفائض في الميزان التجاري دائما لصالح الصين و تشكو منه أمريكا بإستمرار.
المشكلة أن أمريكا و أوربا بدأوا يعانون من تباطوء في الإقتصاد و معدلات النمو ، و الدول الأوربية الآن يدخلون في حالة ركود واحدة تلو الأخرى (اليونان و أسبانيا و ايطاليا) و الحكومات تدفع في إتجاهات سياسات تقشفية ستجعل الإستهلاك و الإستيراد في تراجع ... و بالتالي سيتم إغلاق آلاف المصانع في الصين و الدول النامية عموما و المعتمدة على التصدير إليهم. ثم أن الدول المتقدمة لم تعد تستطيع الاستدانة من الدول النامية الكبرى مرة أخرى لان لديهم ديون ضخمة فعلا و هذة الديون و أقساطها أصبحوا يتراكمون بمعدلات عالية جدا ... و هم يخشون ان يصلوا إلي درجة العجز عن السداد و إشهار الإفلاس (نعم ، الدول أيضا تشهر إفلاسها).
- أمريكا مديونة باكبر دين خارجي في العالم ، حوالي 19.2 تريليون دولار و يوازي 106% من الناتج المحلي الإجمالي ... أكبر الدائنين هم الصين ثم اليابان.
- الدين الخارجي الياباني هو الثاني من حيث القيمة 8.9 تريليون دولار لكنه يوازي 217% من الناتج المحلي الإجمالي (النسبة الآمنة هي 60% فقط من الناتج المحلي الإجمالي).
- ايطاليا مديونة بــ 2.4 تريليون دولار بما يوازي 140% من الناتج المحلي الأجمالي.
- أسبانيا مديونة بــ 1.1 تريليون دولار بما يوازي 99% من الناتج المحلي الإجمالي.
- فرنسا مديونة بــ 2.29 تريليون دولار بما يوازي 97% من الناتج المحلي الإجمالي.
- بريطانيا مديونة بــ 2.30 تريليون دولار بما يوازي 84% من الناتج المحلي الإجمالي.
و لأن أكبر الدول المديونة في العالم هي الدول المتقدمة فهذا يعني أنها ستتوقف عن الإستدانة إن آجلا أو عاجلا ، و سيربطون الأحزمة و يتبعون سياسات تقشفية. و أن الإقتصاد العالمي سيتجه إلي حالة ركود رهيبة بسبب ذلك ... فمواطني أمريكا و أوربا المرفهين لن يستطيعوا الاستمرار في إستيراد و إستهلاك ما ينتجه العبيد في الدول النامية بنفس المعدلات السابقة. و هو ما يعني أن البلدان النامية ستضطر للبدء في الإنتاج من أجل الإستهلاك المحلي بشكل رئيسي و هذا سيجعل معدلات النمو ضعيفة جدا. لكن الصين و الهند و البرازيل ربما لن يعانوا كثيرا لان أسواقهم المحلية ضخمة كفاية لتحفيز النمو الإقتصادي و هم دائما قادرين على إجتذاب إستثمارات جديدة ... لكن معدلات النمو ستتراجع كثيرا على أي حال في العالم كله.