عندما كنت طالبة في الصف الأول ثانوي، كنا ندرُس مادة البلاغة ضمن مواد اللغة العربية، ولا أعلم إن كان قد تم تغيير تلك المقررات أم لا؟ لكن محتوى الكتاب كان ممتعا ومفيدا بحق، كان يضم سلسلة دروس عن (علم البيان) تضم التشبيه والاستعارة والكناية وغيرها (بالمناسبة، أعتقد أن مقرراتنا رائعة جدا، خاصة في المواد الإنسانية، إن كان هناك ثمة مشكلة، فهي في البشر: طلابا ومعلمين، معلم غير مؤهل، أو طالب شارد الذهن مثلي ذلك اليوم)، حين أردت المذاكرة للاختبار، واجهتني صعوبة في فهم درس (الكناية) لا أعلم صراحة إن كنت تغيبت حقيقة أم شعورا عن ذلك الدرس؟ لكنني لم أستطع فك طلاسمه كما ينبغي، فلجأت بعد عدة محاولات للفهم للمجلس الأعلى في العائلة: والدي-حفظه الله-المتخصص في اللغة العربية، وكان يطلب منا عدم السؤال إلا بعد بذل الوسع في الفهم والتعلم، فالتعلم الحقيقي لايحدث إلا بعد استنفاد الجهد، أما حين تُقدّم المعلومة مباشرة على طبق من ذهب دون أن يعمل الذهن فيها ويكدّ،  فلن ترسخ ولن تقوى المهارات، وهذا فحوى النظرية البنائية.

ذهبت إليه وقد فهمت أمثلة الكتاب قليلا، لكن الفكرة لم تترسخ عندي جيدا عن الكناية، فتعريفها في كتب البلاغة: " لفظ أُطلق و أريد به لازم معناه مع جواز إرادة المعنى الأصلي"، مع بعض الأمثلة الفصيحة، حين سألت والدي لم يقم بشرح هذا التعريف المُلغِز، ولم يشرح أمثلة الكتاب، وإنما نظر إليّ وقال: يا ابنتي، إن أساليب البيان هذه نستخدمها في حديثنا اليومي، وأنتِ  كذلك لكنك لا تدركين مسمياتها الاصطلاحية، فأنت تستخدمين الكناية في كلامك! قلت: كيف؟! قال: ألسنا نقول: "فلان طايرتن عيونه! ماذا يعني هذا؟"  "يعني أنه مندهش يا أبي!"  فعقّب:"حسنًا، يمكننا القول أن تعبير (طايرتن عيونه) كناية عن الدهشة" وهكذا أصبح يضرب لي، ويطلب مني، أمثلة من لغتنا العامية اليومية: طايرتن عيونه (الدهشة)،  ماتشوف إلا عراقيبه (الهرب)، مايدري وين كوعه من بوعه (الجهل)، حايمة كبده (الغثيان) وهكذا،  حين فتحت الكتاب وقرأت التعريف وراجعت الأمثلة فيه، لم أكن بحاجة لسؤال آخر، لقد فهمت الكناية جيدا، لأن والدي شرحها ببساطة شديدة لا تنتج إلا عن فهم عميق للغة ولارتباطها بحياة البشر اليومية، نعم، لقد ضرب لي بعض الأمثلة من القرآن الكريم والشعر العربي، لكن الذي أدهشني أنه لفت انتباهي إلى أن هذه الأساليب بسيطة لدرجة أنني أستخدمها ولا أعلم ذلك.

 في ذلك اليوم لم يشرح لي والدي الكناية فحسب، بل علّمني قيمة أعمق وهي أن التعليم الجيد يقترن بالبساطة الناجمة عن العمق أكثر من اقترانه بالتكلّف السطحي (وفرقٌ  هائل بين البساطة والسطحية)، وما نراه في بعض مدارسنا من تكلّف شديد يؤتي ثمارا مختلفة ليس من بينها: التعلّم الحقيقي الذي يجعل الطالب يرى العالم بعيون أخرى، ماقيمة الوسائل التعليمية المكلفة والاستراتيجيات المفتعلة مالم يؤدِّ هذا كله إلى تحقيق الهدف الأساسي من وجود المدارس: التعلم الذي ينتقل أثره للحياة ويمتد لبقية العمر؟

ودمتم سالمين