موقف الحافلات يبدو ممتلئاً.. أحس عامر بارتياح.. رغم العواصف التي تزمجر داخله الآن وهو ينتظر الحافلة..

ذكرياته تمر كشريط سريع.. صورة دراجته الصغيرة والشرائط السوداء المربوطة في مقابضها تلح عليه بشدة.. تذكر حسام ابن جيرانهم الذي كان يستعيرها صباحاً ليوزع بها الصحف..

لم يفهم لماذا بدأ رأسه ينبش تفاصيل حياته البعيدة..

كان لا يجد غضاضة بأن يلعب مع هناء ابنة خالته بدماها الكثيرة بينما جميع الأولاد يعتبرون ذلك عيباً.. كيف كانا يضحكان وهما يتراشقان الماء..

كل يوم يذهب لحقل قريب ويبدأ بقطف زهور اللافندر التي يجثو أمامها لساعات.. يلفها في ورقة ممزقة من دفتره المدرسي ويقدمه لأمه التي توبخه كلما جلب لها باقة جديدة..

كان يريد خلال أسبوع جمع زهور لافندر كثيرة في صندوق.. كي يري ابنة خالته هذا الشيء العظيم.. لكنه اكتشف في نهاية الأسبوع أن نصف الزهور أصبت فاسدة!!

* * * * * * * * * * * * * * *

استقل الحافلة.. بدأ يتصفح وجوه الركاب.. يشاهد قبعات صغيرة تنبسط فوق الرؤوس كبصقة شيطان رجيم.. رأى صبياً له حاجبين مقترنين يحدق فيه بقوة.. تماسك.. وبدأ بتعديل قبعته الصغيرة بأصابع متوترة..

أخوه الأكبر نبيل أتى مسرعاً ذلك اليوم ويده ممسكة بوثيقة تخرجه.. كان مسرعاً تتقافز الفرحات داخل قلبه النقي.. لم يصبر حتى ينتهي حظر التجول المفروض على المنطقة.. أخذ يركض ليصل إلى البيت ويسمع زغاريد أمه.. كان يركض ليحتضن أمه.. عندما احتضنه رصاص غادر.. وسقط الجسد الطاهر واختلط الدم بوثيقة التخرج ويد نبيل لازالت ممسكة بها بقوة..

الصبي ذو الحاجبين المقترنين لازال يحدق في وجهه.. وضع يديه وراء رأسه بلا مبالاة بينما قلبه ينتفض كعصفور بلله المطر.. صرف الصبي نظره نحو النافذة فتنهد عامر..

حقل أبيه كان كبيراً جداً.. استأذن أباه بأن يأخذ بقعة صغيرة.. وزرع فيها زهور لافندر كثيرة..

أمه توبخه: كيف تأخذ هذه القطعة ولا تدعنا نستفيد منها.. ثم تزرعها بأشياء تافهة لا تسمن ولا تغني من جوع..

- أمي إنها ليست تافهة.. إنها تشبهك..

+ أنا لا أدري من أين خرج هذا الولد؟ منذ طفولتك وأنت تغرقني بهذه الزهور التي لا أعلم من أين جاءت.. اللهم طولك يا روح..

* دعي الولد يا أم عامر.. دعي عامر.. فله مكان في القلب.. هو طبيب المستقبل.. الله يمد في أعمارنا حتى نرى أبناءه..

+ ربي يسمع منك يا أبو عامر..

طأطأ رأسه خجلاً وخرج..

* * * * * * * * * * * * * * *

الحافلة تهتز قليلاً بعد تجاوزها أحد المطبات.. لم يبق سوى القليل.. محطتان وينتهي كل شيء.. تتوقف الحافلة.. أرتال من البشر تتماوج عند المحطة.. أناس يصعدون وأناس ينزلون..

تحركت الحافلة..

قبل شهرين.. أحمد يهمس في أذنه يوم الجمعة: (أحسن الله عزاك.. ثامر استشهد اليوم عند البوابة الغربية).. تذكر كيف دهش وكيف نزلت دموعه.. وكيف احتضن أحمد وهو يجهش بالبكاء.. ثامر صديق الطفولة استشهد!

في الليل تخيل أن كل الزهور تنتحب وأن النجمات تنشد غناء حزيناً.. وأن الحقول تئن وهي مأكولة القلب والجذور.. تخيل أن كل الطيور لم تغادر أعشاشها في الغد..

+ (ثامر استشهد ولحق بالرفيق الأعلى.. ونحن متى؟ متى نلحق بركب الأنقياء؟) قالها أحمد بعصبية..

- سأخبرك شيئاً يا أحمد.. أتكتمه؟ عدني ألا تخبر أحداً..

نظر أحمد بشك ثم قال: أعدك..

- اليوم تلقيت إشعاراً أن استعد خلال هذا الشهر..

+ (آ.. آه.. عامر) ثم ضمه أحمد بشدة وعيناه تترقرقان بالدموع..

* * * * * * * * * * * * * * *

توقفت الحافلة مرة أخرى عند المحطة الثالثة.. تصعد فتاة ورجلان.. تكمل الحافلة سيرها.. أحس عامر بانقباض في قلبه.. هذه الفتاة.. تجلس بجانبه.. ترتدي خماراً أبيض.. أحس باختناق.. يجب أن يفعل شيئاً.. إنها تشبه هناء ابنة خالته.. أشياء كثيرة تتراكم في عقله.. ربما تنتظرها أمها الآن ليتناولا الغداء معاً.. ربما إخوتها الصغار ينتظرون عودتها لتقبلهم وتعطيهم الحلوى..

انحنى بلطف وسأل: عفواً آنستي.. هل تعرفين كم بقي على الوصول للمحطة الأخيرة..

تنظر في ساعتها بعفوية وترد في بساطة: ربما عشر دقائق..

- وهل تسكنين في الحي اليهودي؟

استغربت السؤال ولكنها أردفت ببساطة: كلا.. ولكنني متوجهة للسوق هناك لشراء بعض الحاجيات..

ابتسم ابتسامة صفراء وبداخله شيء يدق بعنف.. كلا يجب أن يفعل شيئاً.. الحياة مبهجة وهذه فتاة بعمر الزهور.. ترتدي خماراً أبيض.. كأخته تماماً.. وأيضاًَ كــ هناء..

أحس أنه سينهار تماماً.. ربما تنكشف الخطة.. ربما سيحرق حياً ويحرق معه كل الرجال الذين تركهم يودعونه بالدموع والابتسامات وأدعية تخرج من قلوب صادقة ترتجف.. ربما يخذلهم.. ولكن.. لا.. هذه الفتاة.. يجب أن يفعل شيئاً.. اشتعلت معركة قصيرة المدى في عقله وقلبه.. لم يعد هناك مجال..

انحنى مرة أخرى وهمس: آنستي يجب أن تنزلي من الحافلة حالاً.. بهدوء..

دهشت الفتاة.. ورأت بريقاً غريباً في عيني هذا الفتى الذي يرتدي قبعة صغيرة كقبعات اليهود.. شيء ما يصرخ فيها.. إنه ليس منهم !.. حلقها جاف تماماً وأوصالها بدأت ترتعش..

- أختي.. إنني أدعوك باسم الأخوة التي بيننا أن تنزلي حالاً وبسرعة.. شيءٌ ما سيحدث قريباً..

الفتاة لا تزال تحدق في عيني هذه الروح القابعة بجانبها.. وميض أبيض وأشياء شفافة رأتها تحلق بين جنبيه.. تخاذلت قليلاً على المقعد وبردت أطرافها.. ثم بسرعة اتجهت نحو السائق وهتفت بصوت خائف رهيب: لو سمحت.. انزلني.. هنا بالضبط ما أريد..

ينظر إليها الركاب بدهشة.. وتمتمات امتعاض تعم المكان.. يصرخ السائق، وهو يوقف الحافلة بعنف: انزلي عليك لعائن الله أيتها الفلسطينية.. أنا المخطئ إذا سمحت لك بالركوب..

تتعثر خطواتها وهي تنزل من الحافلة.. تلامس أقدامها الأرض.. تتماسك.. تلتفت نحو حافلة تهم بالمغادرة.. تلمح ابتسامة هادئة ترتسم على شفتي ملاك.. يجلس بين شياطين..

* * * * * * * * * * * * * * *


- يا ابني يا عامر.. متى أنظر إلى أولاد صغار يتبعونك كصغار البط وأضمهم بين جنبي؟!.. يا الله يا بني إمتى أزغرد في فرحك؟

يضحك عامر ويقول بدهشة: (صغار البط!!).. يقبل يد أمه.. ويردف: ماما.. أود أن أنهي دراستي أولاً..

- أنت قل لي فقط من تريد؟ وإلا اترك الأمر لي وسأختار لك أحلى عروس في البلد..

يتصاعد الدم في وجه عامر المطرق نحو الأرض.. يتذكر هناء وزهور اللافندر.. حنين وشوق نحو ذكريات بعيدة..

- أمي.. كيف أفرح واليهود هنا؟

+ يا بني هذا قدرنا.. يكفيك جهادك كل يوم مع زملائك بالحجر..

يبتسم عامر..

- ماما.. قريباً ستزغردين في فرحي.. قريباً جداً..

يقفز بسرعة ليغادر الغرفة.. أمه تهتف: تعال يا ولد.. تعال.. قل لي من هي سعيدة الحظ؟

يغادر البيت مسرعاً وأمه تبتسم في فرح!!

* * * * * * * * * * * * * * *

تقف الحافلة.. السائق يهتف: (هذه المحطة الأخيرة.. تفضلوا بالنزول). يبدأ الركاب بالمغادرة وعامر ملتصق بالمقعد.. كان هو آخر شخص ينزل.. يمشي في خطوات وئيدة.. بقي ربع ساعة.. يقترب من المكان.. يلمح ساحة مكتظة بأصحاب القبعات.. يندس بين جموع لها أنوف معقوفة.. يكاد يبصق في رؤوسهم.. عيونه تلتهب ببريق غامض.. وعلى شفتيه ابتسامة انتصار..

وجهه يزداد شحوباً وصدره فارغ سوى من دقات كبيرة.. يقترب.. ينظر إلى المحلات المتراصة على جوانب الساحة.. تختلج شفتاه.. وهو يشاهد زهوراً بنفسجية اللون داخل محل لبيع الزهور.. لازالت شفتاه تحس برؤوس إخوته الصغار التي قبلها للتو.. عيناه لا تتحول عن زهور اللافندر.. أريجها يملأ قلبه.. ترتيل أخته الصغيرة يدوي في أذنيه.. يكاد يسمع أناشيدها تدوي في الساحة: (بكرا راح نطرد يهود.. دم الشهداء ما بيعود.. دم الشهداء ما بيعود).

دمعات أحمد تمتزج بقلبه الآن.. بسمات أمه.. نظرات أبيه..

يده تلمس الزر.. يتحسس صدره.. يشعر بقلبه خارجاً من صدره تماماً.. يغمض عينيه..

شريط سريع يمر أمام عينيه المغلقتين..

يهمس: وداعاً أمي.. أبي.. وداعاً أحمد.. وداعاً يا كل الأطهار..

يفتح عينيه قليلاً.. يلمح للحظة زهور اللافندر أمامه وشبح هناء يبتسم.. وداعاً يا زهور اللافندر.. يضغط الزر وتتمزق صيحة (الله أكبر) يصاحبها جسد نحيل..

في كل مكان.. دم أحمر.. وأشلاء تختلط بقبعات صغيرة.. و.. بتلات لافندر..