لا أدري إن كانت ثمة دراسة تصدّت لموضوع معضلة القصور البلاغي في شعر الوعظ، وإنه لموضوع خليق بالدراسة.
فنحن لا نشك أن الوعظ أن القرآن معجز، وأن الكلام النبوي بليغ، لكن: لماذا كان الوعظ في القرآن وفي السنة معجزاً وبليغاً، وجاء في الشعر ضعيفاً مخذولاً!
فربما كان المدخل إلى سرّ ضعف شعر الوعظ، أنه ربما جاء إليه من تركيبه ونظمه ونسقه وسياقه، وليس من جهة معانيه الشريفة.
ونحن وجدنا أن المعاني التي اختص القرآن والسنة ببيانها، إذا تناولها الشعراء أتتْ ضعيفة باردة، ولعل ذلك لأن الشعراء لا يجدون فيها سبيلاً ممهّدة سلَكها لهم الأقدمون في بيان معانيها، كما سلكوا لهم سبل البيان في غيرها من المعاني.
ووجدنا أن حذّاق الوعظ، كابن الجوزي وابن القيّم، كأنهم أدركوا شيئاً من هذا، فحرصوا على أن يخلطوا الوعظ الشعريّ بالنثر، وكأنهم أدركوا أنه ليس مما تكون للشعر فيه اليد الطولى.
بل إننا، حين نعود إلى جذور شعر الوعظ وما فيه من القوة، نجد أن بعضه في الجاهلية أبلغ منه في الإسلام! ومن ذلك قول امرئ القيس: "ألا إنّما الدهرُ ليالٍ وأعصرٌ/ وليس على شيءٍ قويمٍ بمستمرّ".
فإنك تجد في مثل هذا عند الجاهليين بلاغة فطرية آسرة، كالتي تستشعرها في قول قُس بن ساعدة: "مالي أرى الناس يذهبون ولا يرجعون، أرضوا فأقاموا، أم تُركوا فناموا".
هذا الخلل في شعر الوعظ وما في معناه، أدركه علماء قدماء، منهم الجاحظ، والجرجاني، وأبو هلال العسكري، وكانوا يستغربون استحسان بعض العلماء للمعاني الشريفة في الأشعار الركيكة.
ويعلّق الجاحظ على استحسان أبي عمرو الشيباني لبعض الأبيات، بقوله:
"سمعت أبا عمرو الشيباني وقد بلغ من استجادته لهذين البيتين ونحن في المسجد الجامع يوم الجمعة، أن كلّف رجلاً حتى أحضره قرطاساً ودواة حتى كتبهما. وأنا أزعم أن صاحب هذين البيتين لا يقول شعراً أبداً".
والبيتان اللذان يقصدهما الجاحظ هما قول الشاعر: "لا تحسبن الموت موتَ البلى/ وإنما الموتُ سؤال الرجالْ. كلاهما موتٌ، ولكنّ ذا/ أشدّ من ذاك على كل حال".
وفي هذا يقول الجرجاني: "واعلم أن الداء الدويّ، والذي أعيى أمره في هذا الباب، غلط من قدّم الشعر بمعناه".
كذلك، فإن أبا هلال العسكري علّق بقسوة على شعر أبي العتاهية، وهو شاعر الزهد والوعظ المعروف، بعدما عرَض قوله:
"مات واللهِ سعيدُ بن وهبِ/ رحمَ الله سعيدَ بن وهبِ. يا أبا عثمانَ أبكيتَ عيني/ يا أبا عثمان اوجعتَ قلبي".
فقال العسكري: "والبارد في شعر أبي العتاهية كثير".
ثم أكد هذا المعنى بقوله:
"والكلام إذا كان لفظه غثّاً، ومعرضه رثّاً، كان مردوداً ولو احتوى على أجل معنى وأنبله وأرفعه وأفضله، كقوله:
لما أطعناكمُ في سُخْط خالقنا/ لا شكّ سلّ علينا سيفَ نقمتِهِ. وقول الآخر: أرى رجالاً بأدنى الدين قد قنعوا/ وما أراهم رضوا في العيش بالدون".
ثم قال: "ولا يدخل هذا في جملة المختار، ومعناه كما ترى نبيل فاضل جليل".
ذلك هو "ما" جعلنا نقول إن في شعر الوعظ خللاَ "ما"، ثم نكتب عنه.