لم يكـن يتوقع الشيخ التاجر أبو الوليد أنَّ الجلطة التي ضربت عروق رأسـه وشلّت جزءً من أركانه ستكون سببا لإقترابه من الله أكثر .. وأن يطلق تجارته ويودّع ثراءه وينفض يده من دوامة الحياة متوجها إلى الله والــدار الآخرة .

وشاء الله أن ينتقل من مدينته إلى مدينتنا ويحلّ ضيفًا جديدًا في حيّنا وفردًا من أفراد جماعة مسجدنا ..ومنذ أن حل رحاله أنشأ له عُشاَ في روضة المسجد خلف الإمام ؛ لا أحدَ يسبقه إليه  إطلاقًا ؛ حتى أن أفراد الحي ارتبطت الصورة الذهنية لديهم فمن يرى أبا الوليد يتذكر مكانه في الروضـة ..

والغرابة ليست في حرصه فقط , إنما في شدة ما يلاقيه من لأي وتعب حيال حضوره إلى الصلاة ..

تأملوا !  يبعدُ منزلهُ عن المسجد 150 مـتر تقريبا ؛ هذه المسافة في نظرنا قريبة جداً , لكنها بعيدة في نظره , ثقيلة على جسده , ليتكم ترون مشهد خروجه  من منزله إلى المسجد بِخطى بطيئة من أثر الشلل الذي أصابه , كأنَّما يجر عربةً ثقيلة ؛ عجلاتها متهالكة .

 دار بيني وبينه حديثا فقال لي : كنتُ تاجراً عندي مصانع وثروات لاهيَا في دنياي مقصرا في صلاتي وعبادتي , ولما أصابني الشلل أفقتُ من غفلتي , فليس بعد الستين شيء وقسّمت أموالي على أولادي وقلتُ دعوني أتفرغ لربي .. فسألته عما يلاقيه من تعب خلال حضوره إلى المسجد فسكتَ ثمّ قال هل تتصور أن حضوري إلى الصلاة يأخذ مني 45 دقيقة !

إيهٍ يا أبا الوليد هنيئأ لك هذا الحرص الذي تتصاغر نفوسنا أمامه , ويشهد له الجميع أنه لم يفته الصف الأول يوما ؛ رغم أنَّ الأمراضَ والعلل تتخطفه وتنهش من جسده كل يوم فلم يلتفت لأي تبرير وأعذار تخوله بأن يصلي في منزله أو يكون في الصفوف الأخيرة ينقر الصلاة نقراً سريعا ويخرج ..

على قدر أهل العزم تأتي العزائم . . لا زلت أذكر حزنه حينما أقيمت الصلاة وصار مكانه في طرف الصف الأول .. في طرف الصف الأول ويحزن ! ونحن على أي شيء تكون أحزاننا الله المستعان

 إنتقلتُ عن حيّنا إلى حيٍ آخر ؛ وذات مساء وصلني خبرَ وفاته وهو على فراشـــه ..

إنما الأعمال بالخواتيم ؛ وأنتم شهود الله في أرضـه ؛ بعد قراءة الخبر رحلت ذاكرتي تنظر إلى مشيته البطيئة التي لم تتكاسل خطاها يوما ؛ فجرا أو ظهراً أو عشاءً ؛ كانت مشيته تلك مشهد يستحق التأمل فهي كالنصيحة الندية على القلب تارة , وكالسياط على الظهر تارة تعاتب تقصيرنا وتكاسلنا ..


أين الأصحاء من هذه النماذج ! الشللُ والخلل ليسَ في الأعضاء إنما الشلل أن يشلّ قلبك وتسكن حركتك ويبرد حماسك عن شهود الصلوات في المسجد ..

ليس بين من يقف في الصف الأول والأخير سوى دقائق يسيرة استثمرها موفقٌ ليحظى بالفضل العظيم , وسوّف فيها آخر ليكون من المتأخريــن ( ولايزال قومٌ يتأخرون حتى يؤخرهم الله ) فلا نعلم كم من خير أخّر عنا بسبب تأخرنا عن أداء صلاة في وقتها أو تقاعسنا عن المبادرة لها . .

إن التذكير بأهمية الصلاة والحرص عليها وشهود الصف الأول ليس نافلة من القول , أو ترفا وعظيا , أو حديثا روتيناً يدير اسطوانته الوعاظ والدعاة كل حين كما يراه البعض , بل هو من أهم مايذكّر به ويُتواصى عليه ..

 أُخيّ ! حرصك على أبواب الخير هذه أهم مقياس تَقيس به مدى إيمانك وتقواك  ؛ومنزلة الدنيا من قلبك .

أما أنت يا أبا الوليد فرحمك الله وأغدق عليك فضله ونعيمه , فلقد كنت نعمَ الجار وكان في حرصكَ ومِشيتكَ لنا عظاتٌ .