ن

طالبة ، طب الاسكندرية

مدة القراءة: دقيقتين

الرسالة ؛ الورقة الأولي .

أما بعد ،

هذا أنا كاتب تلك الرسالة . هل تقرأ هذا الآن ؟ إذًا فقد شاء الله لها أن تصل و تُقرأ . يدعونني غيث ، أجل ، فقد تشبثتُ جيدًا برحم أمي بعد مراتٍ عدة من الفشل و الإجهاض ، و لفظتني بطنُ أمي في يوم أغُيثَ فيه الناس بعد جفافٍ طال أمده ، فقد بلغ بعينيها الشوق لرؤيتي أقصاه . و هكذا جئت لتلك الدنيا .

حَلبِيٌّ أنا ، بها ولدتُ و فيها كانت طفولتي و شبابي . شوارعها و بستانها ، بيوتها و متاجرها . هي جزء مني و أنا جزء منها . في شارعها الشرقي كان بيت جدتي . كثيرًا ما لعبت صغيرا بحوش الدار مع عنزتها الصغيرة التي أظنها في مثل عمري .

و في حلب دق الحبُ باب قلبي لأول مرة ، دق لتلك الفلسطينية التي جاءت مع أهلها لاجئين للبيت المجاور لبيت جدتي . سمراءُ كانت هي بعينين بلون اللوز ، رأيتها أول مرة بثوبها الفلسطيني و كأنها أميرة جاءت من الأندلس المفقود ، كنت حينها في العشرين من عمري و مازلت صغيرًا كما كنت أظن .

لم أكن صغيرًا أبدًا ، أو أنني لم يكن لدي الحق أن أكون صغيرًا أو أن أنشأ علي مهلٍ كما ظننت .

ففي مساء يومٍ ، فزعتُ من نومي علي صوت قاتل ، رعد !

لا نحن في فصل الصيف !

" هناك قصف ، احتموا جميعًا ! " جاء هذا الصوت من بعيد ، و كأنه ملاك حارس تنبه للأمر سريعًا فنبّه من يحرسهم . قفزت من سريري ، ركضت لغرفة أختي الصغيرة ، أخذتها من مهدها . أمي بالباب أخذتنا و نزلنا للشارع .

لما ؟ لا أدري ! لكنني وجدت الكثيرين هنا .

تسع ساعات مررنّ كأنهن تسعون عامًا . تسع ساعات من الترقب و الخوف و النظر بلا أمل للسماء . أصوات تبتهل و أخري تحوقل ، أطفال تبكي . تجمع رجال الحي و حولهم صبية يلهون سَوِيًّا وسط القصف و هم يتصارخون ، ما أجمل عقل الأطفال !

جاء الصبح بعد طول انتظار ، هدأ كل شئ سوى القلوب و الدخان المتصاعد من هنا و هناك .

عاد أبي إلينا و جاء معه بجدتي . و أخذ أختي الصغيرة من حجر أمي الثَّكلَي ، و أقامها و أمسك بيديها و اتجهنا عائدين للبيت !

من بعيد رأيتها مرة أخري ، جميلة فلسطين ، هذه المرة تجلس مستندة لتلك الجدار واضعة رأسها بين كفيها . و تبكي !

أجل رأيتها من بعيد و لكنني موقن أنها تبكي .

و تلك كانت أولي ليالي القصف ..

(١)

* مُرفق صورة من حلب . 

ن
نورهان الصّباغ

طالبة ، طب الاسكندرية

أهلاً بكم في مدونتي! أنا كاتب شغوف أشارككم أفكاري وتجربتي في الحياة من خلال تدوينات أسبوعية. أستكشف فيها التوازن بين القيم والمغريات التي نواجهها يومياً، وكيف يمكننا أن نعيش حياة مليئة بالمعنى والعمق. انضموا إلي في هذه الرحلة الأدبية!

انضم الى اكتب

منصة تدوين عربية تعتد مبدأ البساطة في التصميم و التدوين

التعليقات