أما بعد ،
هذا أنا كاتب تلك الرسالة . هل تقرأ هذا الآن ؟ إذًا فقد شاء الله لها أن تصل و تُقرأ . يدعونني غيث ، أجل ، فقد تشبثتُ جيدًا برحم أمي بعد مراتٍ عدة من الفشل و الإجهاض ، و لفظتني بطنُ أمي في يوم أغُيثَ فيه الناس بعد جفافٍ طال أمده ، فقد بلغ بعينيها الشوق لرؤيتي أقصاه . و هكذا جئت لتلك الدنيا .
حَلبِيٌّ أنا ، بها ولدتُ و فيها كانت طفولتي و شبابي . شوارعها و بستانها ، بيوتها و متاجرها . هي جزء مني و أنا جزء منها . في شارعها الشرقي كان بيت جدتي . كثيرًا ما لعبت صغيرا بحوش الدار مع عنزتها الصغيرة التي أظنها في مثل عمري .
و في حلب دق الحبُ باب قلبي لأول مرة ، دق لتلك الفلسطينية التي جاءت مع أهلها لاجئين للبيت المجاور لبيت جدتي . سمراءُ كانت هي بعينين بلون اللوز ، رأيتها أول مرة بثوبها الفلسطيني و كأنها أميرة جاءت من الأندلس المفقود ، كنت حينها في العشرين من عمري و مازلت صغيرًا كما كنت أظن .
لم أكن صغيرًا أبدًا ، أو أنني لم يكن لدي الحق أن أكون صغيرًا أو أن أنشأ علي مهلٍ كما ظننت .
ففي مساء يومٍ ، فزعتُ من نومي علي صوت قاتل ، رعد !
لا نحن في فصل الصيف !
" هناك قصف ، احتموا جميعًا ! " جاء هذا الصوت من بعيد ، و كأنه ملاك حارس تنبه للأمر سريعًا فنبّه من يحرسهم . قفزت من سريري ، ركضت لغرفة أختي الصغيرة ، أخذتها من مهدها . أمي بالباب أخذتنا و نزلنا للشارع .
لما ؟ لا أدري ! لكنني وجدت الكثيرين هنا .
تسع ساعات مررنّ كأنهن تسعون عامًا . تسع ساعات من الترقب و الخوف و النظر بلا أمل للسماء . أصوات تبتهل و أخري تحوقل ، أطفال تبكي . تجمع رجال الحي و حولهم صبية يلهون سَوِيًّا وسط القصف و هم يتصارخون ، ما أجمل عقل الأطفال !
جاء الصبح بعد طول انتظار ، هدأ كل شئ سوى القلوب و الدخان المتصاعد من هنا و هناك .
عاد أبي إلينا و جاء معه بجدتي . و أخذ أختي الصغيرة من حجر أمي الثَّكلَي ، و أقامها و أمسك بيديها و اتجهنا عائدين للبيت !
من بعيد رأيتها مرة أخري ، جميلة فلسطين ، هذه المرة تجلس مستندة لتلك الجدار واضعة رأسها بين كفيها . و تبكي !
أجل رأيتها من بعيد و لكنني موقن أنها تبكي .
و تلك كانت أولي ليالي القصف ..
(١)
* مُرفق صورة من حلب .