مقدمة

   "لو لم يغرد في الغابة إلا الطيور ذوات الأصوات الحسنة، لساد الصمت معظم أرجائها"                                                                                    مجهول                                                 

**************

الحمد لله ربَّ العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:

 تجد عزيزي القارئ بين دفتي هذا الكتاب بعضًا من ذكريات طفولتي، التي أُطِلُ عليها من الستينات من عمري، وأشُرِفُ عليها من سفح جبل خريف العمر؛ ذاكرًا ومستذكرًا، قارئًا ومتأملًا، متسائلًا ومجيبًا. بعضها مما تحتفظ به الذاكرة، وكثيرٌ منها مما أخبراني به والِدَيَّ رحمهما الله، وغيرهما من الأقارب والجيران.

هي غيضٌ من فيضٍ امتلأت به الذاكرة، حان وقت تفريغه كلماتٍ ومشاعر علّها تشفي صاحبها، فالكتابة علاجٌ، وعساها تفيد أحدًا. ليتها تفعل ذلك، ليتها تفعله!

سألتني (فِكْرَةُ) تأليف هذا الكتاب، وفي الوقت نفسه، ألحَّ عليَّ (هَاجِسُ) التوثيق لهذه الذكريات: ما الجدوى إن كان ثمَّة جدوى؟

ولم يتركا ليَّ؛ تلك (الفكرة) وذلك (الهاجس) مجالًا للتفكير في جوابٍ، -وأنا من كان يتوهم أنَّ: "لكلِّ سؤالٍ جوابٍ" على حدِّ زعم "جميل بثينة"! - حتى صعقاني بأسئلةٍ أخرى لا يمكن أن تكون بريئةً من قبيل: ومن أنت، حتى تكتب ذكرياتك، أو تنشر مذكراتك؟ أتظن نفسك قائدًا همامًا لا يشق له غبارٌ! أم تحسب أنَّك زعيمٌ عظيمٌ تتناقل الأجيال بطولاتك! هل أنت لاعب كرةٍ مشهورٍ، أو مطربٌ بارع، أو فنانٌ مبدعٌ؟

وأضافا قائلين: "يا سيدي المتوهم ... أنت لم تنل حتى شرف أن تكون واحدًا من مشاهير وسائل التواصل الاجتماعي كـــ   (السناب) أو (اليوتيوب)، ولم تحظ يومًا بكونك واحدًا من التافهين الذين يصنع منهم الإعلام الهابط نجومًا يشار لها بالبنان. فعلام تكتب؟ ومن سيقرأ لك؟ في زمنٍ قلَّ فيه من يقرأ ناهيك عمَّا يقرأ! ولو قرأ لك أحدهم _مجاملةً أو عن حسن ظنٍّ بأنَّه سيجد فيما كتبت شيئًا ذا قيمةٍ ومعنى_ فأيُّ فائدةٍ تعود عليه، وتوازي المال الذي صرفه شراءً لكتابك، والجهد والوقت اللذين بذلهما قراءةً له؟

وهكذا حَبَلَت الأسئلة بمزيدٍ من الأسئلة، وولِدَتْهَا وِلَدَّاتٍ طبيعيةٍ تارةً وقيصريةٍ تاراتٍ أخر.

أتعبت الأسئلة ذهني ستيني العمر، حِرْتُ في إيجاد إجاباتٍ مقنعةٍ لي قبل غيري. استجمعت ما بقي من قوايَّ. صاحت في وجهي، بل في وجهي الفكرة والهاجس:
" يكفي ... يكفي ...  اتركا عنكما كثير الأسئلة"، مع الاعتذار للأمير الشاعر عبد الرحمن بن مساعد.

لاذت فكرتي ومعها هاجسي بالصمت. قلت في نفسي، وكلِّي ثقةٌ ربَّما مصطنعةٌ بعد أن رأيت السكون مخيمًا عليهما:

 " ... ثمَّ من قال أنَّ الكتابة عمومًا، وعن الذكريات خصوصًا، وقفٌ على المشاهير؟ أليس كلُّ إنسانٍ في هذا الوجود قصةً فريدةً يمكن أن تتولد منها مئات الحكايا؟ أليست حياة كلِّ فردٍ على هذا الكوكب فريدةً بما يكفي لأن تسير بها الركبان، متى ما حَسُنَّ عرضها، وأُتْقِنَ سردها، وقرئ بعمقٍ ما بين سطورها؟ وأزعم أنِّي أجيد قليلًا من هذا!

وجدتني في تلك اللحظةٍ أواجه الأسئلة المقلقة التي طرحاها عليَّ بأسئلة لا تقل عنها دويًّا:

أليست الكتابة حقٌ مشروعٌ لكل من يرغب؟ والحكم والفيصل هو القارئ وحده، وليس غيره؟ فلماذا نحجر واسعًا؟

أليست الكتابة في حدِّ ذاتها مغامرةٌ غالبًا ما تكون محمودةٌ النتائج، فلماذا -والحالة هذه-لا نتقبل ممن يكتب محاولاته تلك، والزمن وحده كفيلٌ بفرز الجيد من الغثاء؟ 

كيف نغفل حنين بعض من يقرأ هذه المذكرات لذلك الزمن؟ ونتجاهل أهمية أن يقرأ أبناؤنا شيئًا من أنماط حياة آبائهم وأجدادهم، وأساليب تعاطيهم مع ظروف زمانهم، وتسلحهم الفطري بقيم الخير والحب والسلام القيم في وجه الفاقة، وشظف العيش، وقسوة الحياة؟

ولماذا -يا فكرتي وهاجسي-تستبقان الأحداث، وتحكمان مسبقًا على العمل قبل صدوره؟ وتتصوران أنَّه لن يعجب القراء؟ ولن يوازي ما سيدفعونه في سبيله من مالٍ ووقتٍ، وجهدٍ اقتناءً ،وقراءةً، وفهمًا؟

ومن قال أنَّ في العالم كلِّه عملًا واحدًا عبر التاريخ الإنساني نال رضا جميع القراء دون استثناءٍ؛ وهم طرائق قددًا؟

منحتني هذه الأسئلة بعض جرأةٍ كانت كافيةً للشروع في تأليف الكتاب، ولا أكتمكم سرًّا أنَّها ثقةٌ مشوبةٌ بشيءٍ من القلق، ويساورها بعض الأرق، رغم إيماني التام بمقولة الروائي الشهير: جوزيه ساراماجو: "ما نحن إلا ذكرياتنا والمسؤولية التي نتحملها. من غير ذكرى لا وجود لنا، ومن غير مسؤولية لا نستحق الحياة. أترك زمام أمرك للطفل الذي كنته".

ختامًا أرجو أن تجد عزيزي القارئ في الكتاب فائدةً ومتعةً، وأن يثير في نفسك أسئلةً ولادَّةً، ويهيج في حناياك ذكرياتٍ شجيةٍ، ويزودك بمعرفةٍ ذات معنى عن زمنٍ ألوانه غير ألوان زماننا هذا، ومكانٍ عَبَقُهُ ليس كرائحة كل الأماكن التي تشتاقنا، ونشتاقها.

         ****************************