مهما احتوت الشعارات المرفوعة والبرامج المطروحة من معان سامية ومعلومات قيمة ... ؛ فإنها تفقد بريقها وتأثيرها  اذا لم تجد سبيلاً لتطبيقها على ارض الواقع ؛ سواء كان التطبيق على صعيد النخب والقيادات ام الافراد والجماعات او على واقع البنى  والاسس التحتية والخدمية والثقافية والسياسية والاقتصادية  والحضارية ...   ؛ وتاريخنا العراقي حافل بهذه التجارب فهي لا تعد ولا تحصى . 

بل طالما تحولت تلك الشعارات والبرامج الى جحيم بفعل الممارسات الخارجية الخاطئة , والتي  قد تسبب بسقوط التجربة او الثورة او العملية السياسية بصورة حتمية ؛ ولهذه الظاهرة اسباب عديدة لا مجال لحصرها هنا جميعا , ولعل من اهم اسبابها خيانة العملاء وارتباط الحكام والزعماء بقوى الاستعمار والاستكبار , وتنفيذ اوامرهم واجنداتهم الخبيثة ... ؛ او بسبب جهل وتخلف وعدم تخصص وكفاءة المتصدين للعمل السياسي ... ؛ وقد تسببت تلك الشعارات والثورات والحركات السياسية والحكومات بإحداث جروح غائرة في اعماق نفوس المواطنين , بعد ان استهوت تلك الشعارات والحركات الشباب والرجال وصدقوا بها , وافنوا زهرة شبابهم واعمارهم من اجلها , وبذلوا الغالي والنفيس لتحقيقها على ارض الواقع  ... ؛ الا  ان جهودهم ذهبت ادراج الرياح , هباءً منثورًا , وتكبدوا الخسائر المادية والمعنوية المتتالية , والهزائم والانكسارات الكارثية المتتابعة ؛ ولا نجانب الصواب ان قلنا : ان من اهم اسباب الخيبة السياسية العراقية , والفشل في احداث التغييرات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية  والتنموية الايجابية  ؛ جراء الثورات والحركات والتظاهرات والانتفاضات ونضال الاحزاب والجماعات ... ؛  هو إذعاننا المتأصل والتاريخي لكل من ادعى القيادة والزعامة وايماننا المطلق بهم  , وتصديقنا بكلامهم وشعاراتهم وادعاءاتهم السياسية والدينية والثقافية ... الخ ؛ وطالما اسفر الحراك الشعبي  والنضال الوطني عن نتائج تصب في مصلحة هؤلاء  والاعداء , وبعيدة كل البعد عن تحقيق مصالح وتطلعات الامة العراقية ؛ لذا ذهب البعض الى القول : بأن العراق بلا قيادة ... ؛  اذ يرى هؤلاء بأن العراق يخلو من القادة الحقيقيين والزعماء الاصلاء النبلاء ... ؛ واما الذين حكموا العراق سابقا وحاليا فهم مجرد عملاء او مدراء ازمات ليس الا , او انصاف قادة في احسن الاحوال  ... .  

ولكن للحقيقة والانصاف بلاد الرافدين كانت ولا زالت ؛ ولادة للرجال والقادة , فالعراق لا يخلو من الشخصيات الوطنية والسياسية الشريفة والنزيهة  , و اصحاب الكفاءة والخبرة  ... ؛ الا ان اغلب هؤلاء تعرضوا للضغوط والتهديدات , وانزوت الدنيا والشهرة عنهم ؛ بسبب رفضهم للإغراءات والتهديدات , والبعض منهم استشهد في سبيل المبادئ والقيم الوطنية والاخلاقية السامية ... ؛ والبعض الاخر من القيادات والزعامات مفككة ومخترقة من قبل المنكوسين والعملاء ... ؛ وقد حقق بعض قادة الاغلبية العراقية الاصيلة مكاسب تاريخية لا تنسى ابدا . 

الا اننا نأمل من البعض ؛ التحلي بروح المسؤولية , والتمسك بالهوية العراقية الاصيلة , والشعور بالروح الوطنية , وتقديم مصلحة الوطن والمواطن على المصالح الفئوية والحزبية والشخصية الضيقة ... ؛ ومن الشواهد التاريخية  العالمية على هذا الشعور الوطني السامي ؛ شارل ديغول ؛ ففي عام 1969 خسر ديغول في تمرير قرار سياسي ؛ من خلال الاستفتاء الشعبي , وعلى اثرها اعلن قائلا : ( ...  سأتوقف عن مهامي كرئيس للجمهورية  , وان هذا القرار سيدخل حيز التنفيذ اليوم مع منتصف النهار ... ) وهذا اخر ما نطق به الرئيس الفرنسي ديغول ؛ فقد احترم رأي شعبه , وتاريخه السياسي والعسكري والوطني ؛ وذهب الى الريف , وكتب مذكراته ؛ قائلا : (ليس المهم ان أكون الرئيس ، المهم ان ارى فرنسا في المقدمة  ) ... ؛ فنحن اليوم بأمس الحاجة لانبثاق زعامات  عراقية وظهور قيادات وطنية ؛ تعمل على اجراء المراجعات وتصحيح المسيرة والحسابات وتغيير البرامج والشعارات ؛ وتحقيق الانجازات والنجاحات في مختلف الاصعدة والمجالات ... ؛ والسعي من اجل بناء دولة وطنية قوية مقتدرة وفاعلة , ورفع شعار : العراق اولا واخيرا . 

ومن الواضح ان المجتمعات الديمقراطية الحقيقية توجد فيها ثلاث توجهات سياسية ؛ مسيطرة على المشهد السياسي , الا وهي : احزاب تمثل اليسار  , واحزاب تمثل اليمين  , واحزاب تمثل تيار الوسط ... ؛ وكلها تعمل من اجل المصلحة الوطنية لا غير ؛ وهذا هو منطق السياسة الوطنية الحقيقية ... ؛  فلو كانت  الاحزاب والحركات السياسية العراقية راغبة  فعلا ؛ في تطبيق النظام الديمقراطي الحر وارساء قواعد رصينة للعملية السياسية المستقرة  وتقوية المسار الديمقراطي ومبدأ التداول السلمي للسلطة ... ؛  لبادرت إلى تنظيم المشهد السياسي الذي يتسم بالضبابية والهلامية والفوضى وانعدام الرؤية الوطنية والهوية العراقية الاصيلة ؛  فإحداث ثلاثة أقطاب سياسية لا غير ؛ وبصورة حقيقية و واقعية ؛  هو عقلنة للمشهد الحزبي الشارد.(1)

لكن واقع الحال في عراقنا ؛  يظهر التناقض الصارخ  والكذب الفاضح  والمهازل السياسية ، إذ  طالما لعب السياسي والزعيم الشعبي  - البعض  منهم كما اسلفنا - على احبال السياسة كالقرد ؛ فبينما تراه في الانتخابات السابقة قوميا  او اسلاميا ؛ واذ به يتحول بقدرة قارد الى منظر وطني  او علماني في الانتخابات اللاحقة , وقد  يتحول  من اليسار  الى اليمين , بطرفة عين , ومن اليمين الى الوسط ...  ؛  وهكذا دواليك  ؛  اذ ترى الأحزاب والساسة يتخاصمون ويتراشقون حين تقترب الانتخابات , وبعدها يتحالفون ويتجادلون ، ويضحكون ويمرحون ؛ ففي تقسيم الغنائم يتوافقون وعند توزيع الامتيازات والمناصب يتفقون ، وهكذا يفعلون دائما فهم في السر غيرهم في العلن  ... ؛  وعندها لا يستطيع المواطن البسيط التمييز بين الاسلامي والليبرالي والعلماني والشيوعي والقومي والوطني ... ؛ اذ يصبح المبدأ الثابت والعقيدة الراسخة في اللعبة السياسية ؛ تحقيق المصلحة الشخصية والحزبية والفئوية باي ثمن كان ؛ وبغض النظر عن الاضرار الفادحة التي تلحق العراق والامة العراقية جراء قراراتهم المنكوسة وافكارهم الهدامة وسلوكياتهم اللاوطنية وتصرفاتهم اللاإنسانية  .

ومن البين ان هذه التصرفات والرؤى السياسية المنكوسة  تؤثر سلبا على الواقع العراقي العام ؛ اذ تولد نفورا من الاحزاب والحركات السياسية , وابتعادا عن العملية السياسية , وبغضا بالحكومات واشمئزازا من الانتخابات ... ؛ وهو ما يؤدي إلى خلق بيئة خصبة مليئة باليأس وفقدان الثقة وانعدام الشعور بالوطنية والمسؤولية ، مما ينعكس سلبا على المبادرة الحرة، والمشاركة الايجابية , والتنمية السياسية , والاهتمام بالصالح العام ... ؛ وهذه الظواهر تؤدي بدورها الى الموت البطيء والهشاشة والكبت والضياع الذي يسبق العاصفة العوجاء والثورة الحمراء  ... ؛  ومن المعلوم ان كثرة الانتظار من قبل الجماهير والمواطنين ,  وترديد الوعود السياسية في كل دورة انتخابية من قبل الساسة والمرشحين ؛   تفقد القيم والمثل  والمبادئ والشعارات  بريقها وقيمتها  وقوة تأثيرها ... ؛ بل وتفسد صلاحياتها في قلوب العراقيين . 

..........................................

1-الانتخابات أو حينما تفقد الديمقراطية بريق بوصلتها / منير الحردول / بتصرف .