لا تهاجر الطيور الا في مجموعات متشابهة في النوع والشكل ، ولا تطير الا مع اشباهها ؛ فلا يمكن أن ترى سرباً من الحمام به صقر أو العكس ؛ فالحمام ينفر من الصقر ويخاف منه خوفا غريزيا ؛ فكيف يطير ويحلق في السماء معه ...؟!

و من الظواهر التي نراها ونمارسها في الحياة العامة ؛ ميل كل امرئ الى كل من يشاكله , ويناسبه روحا وخلقا , او دينا وادبا , او مبدأ ومذهبا , او حرفة وعملا ... الخ ؛ ومن هنا قيل : ان الطيور على اشكالها تقع ؛ فمن الطبيعي ان ينجذب المرء لخليله ولمن يتفق معه في الآراء والعقائد والاخلاق والمزاج ... الخ ؛ ومن المنطقي ان يبتعد عن من يخالفهم في الرأي والمزاج والاخلاق , وان يتجنب الاعداء والخصوم والاشرار والمرضى والسلبيين ... ؛ ففي حياتنا هنالك أشخاص يعنون لنا الكثير والكثير مع أننا لم نخالطهم إلا فترة وجيزة , او لم نشاهدهم قط ... ؛ ولعل هذا الود يعبر عن تجاذب الأرواح ؛ فهو أمر لا إرادي , والأرواح جنود مجندة كما جاء في احدى الروايات الاسلامية ؛ ولعل هذه الرواية تشير إلى معنى التشاكل في الخير والشر، والصلاح والفساد ... ؛ وأن الخيِّر من الناس يحنّ إلى شكله، والشرير يميل إلى نظيره، فتعارف الأرواح يقع حسب الطباع التي جبلت عليها من خير أو شر ، فإذا اتفقت تعارفت ، وإذا اختلفت تناكرت ... ؛ فالقلب الطيب من الناس يحنّ إلى شكله والشرير نظير ذلك يميل إلى نظيره ومن يشاكله ، وكل انسان له شبيه روحي يتناسب معه ؛ وقد قيل قديما : شبيه الشيء منجذب اليه , لذلك نجد الشاب يميل إلى أترابه من جنس أشباهه، ونجد الفتاة تجتمع مع مثيلاتها ... ؛ وهكذا هي عقول البشر تبحث بعضها البعض ؛ لأنها تعلم علم اليقين ان اساس استمرار العلاقات مرهون بالتوافق بين بني البشر .

ولكن الذي من المفترض أن يحصل قد لا يحصل دائمًا ؛ فالبعض لا يحالفه الحظ في اختيار شبيه له ؛ او العثور على نصفه الثاني ؛ فكما أن هناك من يحبك بلا سبب ، هناك أيضاً من يكرهك بلا سبب ... ؛ فليس دائما الطيور على أشكالها تقع ، وطالما أوقعتنا الحياة على غير أشكالنا وأجبرتنا على الكثير من الوجوه التي لا تشبهنا أبداً ... ؛ وعندها لابد لك من مجاراة الامور الى حين تبدل الاحوال وتغير الاوضاع ... ؛ ومن الواضح ان العلم عبارة عن معادلات ثابتة ، و لكن الحياة عبارة عن مواقف متغيرة تقتضي أن يكون الإنسان مرنًا ومتكيفا وذكيا ، ففي العلم واحد زائد واحد يساوي اثنين، اما في الحياة فمن الحكمة أحيانًا أن يكون المجموع يساوي ثلاثة، اذ لابدّ من كسر المعادلة وليّها وثنيها والالتفاف عليها لتستمر الحياة ... ؛ و في الفيزياء لكل فعل رد فعل مساو له في الشدة معاكس له في الاتجاه ... ؛ هكذا يقول نيوتن في قانونه الثالث، أما الحياة فلها قانون آخر يقول : من الحكمة ألا يكون لكل فعل ردّ فعل، فأحيانًا لا توجد إجابة أبلغ من الصمت، ولا تصرف أعقل من أن تتصرف كأنك لم ترَ ولم تسمع ... ؛ ومما قاله جورج برنارد شو , بهذا الصدد : ( لست مجبراً على تصحيح تفكير الآخرين ، لكني مضطراً إلى مراعاة حجم عقلياتهم ) ولعل هذه المقولة تنسجم مع الرواية الاسلامية المعروفة : (( إنا معاشر الأنبياء أمرنا أن نكلم الناس على قدر عقولهم )) نعم احيانا لا خيار لك سوى التعامل مع السلبيين والحمقى وعندها لابد لك من الرفق والسياسة ومجاراة هؤلاء ؛ كما يفعل الراعي مع الغنم وكلاب الصيد . ؛ هذا السلوك المنطقي في حالات الاضطرار والاكراه ؛ واما عندما يكون بيدك الخيار والقرار , فأنت عندها تمتلك البدائل التي من خلالها تستطيع تغيير الاماكن والوظائف والعناوين ... ؛ والذي يستدعي تغيير الشخصيات تبعا وتبديل زملاء العمل او الدراسة ثانيا ... ؛ وعليه لست انا مجبرا ؛ ولا انتم مجبرون على تكوين علاقات مسمومة او انشاء صداقات مزيفة , او الاستمرار بصحبة الحساد والمرضى والاشرار ... ؛ او التعرف على الاعداء والخصوم ومسايرتهم ومراعاة مشاعرهم والاهتمام بأفكارهم واراءهم ... , ولا انا اقبل ولا انتم تقبلون بأن نكون مسيرون كالعبيد لإرضاء الاخرين والمجتمع ؛ فالخيارات عديدة والسيناريوهات متعددة وارض الله واسعة الفضاء ؛ فلأن اسير وحيدا حرا ابيا في درب الكرامة والحق والحرية ؛ خير لي من اكون مع الجماعة مكرها ومتصنعا وتابعا وذيلا ؛ وقد جاء عن الامام علي ما يؤكد اهمية الحرية الشخصية واتخاذ القرار الفردي بغض النظر عما يراه الاخرون ؛ اذ قال : (( لا تستوحشوا طريق الحق لقلة سالكيه )) ... ؛ فلا تجبرون انفسكم على كتابة ما يحبه الاخرون وقراءة ما يفضله الغير ؛ وكذا لا تكرهوا الناس على قراءة ما تكتبون او متابعة ما تنشرون ... .

ولا تتعب نفسك في مجاراة الاخرين او بضرورة المشاركة والتفاعل مع الحديث الفلاني او النقاشات العلانية الدائرة بين هذه المجموعة او تلك الفئة , او وجوب الالتزام بالتعليق لهذا او متابعة ذاك , او الاجابة عن كل الاسئلة , او التحدث مع الاخرين بسبب ومن دون سبب ؛ وقد حذر الامام علي من هذه السلوكيات السلبية ؛ قائلا :

ودع الكذوب فلا يكن لك صاحبا *** إن الكذوب لبئس خل يصحب

وذر الحسود ولو صفا لك مرة *** أبعده عن رؤياك لا يستجلب

وزن الكلام إذا نطقت ولا تكن *** ثرثارة في كل ناد تخطب

فالمفروض بنا عدم التكلف والتصنع في التعامل مع الاخرين والمواقف والاحداث والثرثرة ؛ والتصرف بانسيابية وحرية وحكمة وتروي , ومن اروع ما جاء في الادب الروسي ؛ هذه القصة : ذات يوم قامت ثلاث نساء يرتدين اثوابا فاخرة بزيارة تشيخوف ... ؛ وبعد ان ملأن غرفته بحفيف فساتينهن الحريرية، ورائحة عطورهن القوية، جلسن مقابله بوقار، ثم شرعن في طرح الأسئلة، متظاهرات باهتمامهن الشديد بالسياسة.

فقالت إحداهن:

– عمَّ ستسفر الحرب الجارية الآن؟

أخذ تشيخوف يسعل ، ثم فكر وأجاب برقة وبصوت ناعم وجدي : “على الأغلب، إلى السلم،.

فردت احداهن : طبعا، لا شك ولكن من سينتصر اليونانيون أم الأتراك ؟

فرد تشيخوف فيما يشبه السخرية : أتصور ان الأقوى هو الذي سينتصر،

فتنافسن على سؤاله : ومن هو برأيك الأقوى؟ فأجاب مواصلا سخريته المضمرة “أحسنهم تغذية وأكثرهم تعليما” ... ؛ آه ... يا للظرافة ؛ صاحت احداهن، وسألت أخرى، ومن تحب أكثر... اليونانيين أم الأتراك ؟

فنظر إليها تشيخوف بحنان ، وأجاب بابتسامة قصيرة لطيفة : أنا أحب مربى الفواكه ... ؛ هل تحبينه أنت ايضا ؟ فردت المرأة بحرارة : جدا ، وقالت زميلتها : إنه طيب للغاية، ثم ما كان من النساء الثلاث إلا أن انصرفن للحديث بحيوية عن المربى، كاشفات بذلك عن اطلاع واسع ومعرفة دقيقة بالمربى وأنواعه، وكان واضحا انهن كن سعيدات لأن موضوع المربى لم يكن يتطلب جهدا عقليا، كالحرب بين تركيا واليونان، ولا يجبرهن على التظاهر بالاهتمام الجدي بمصير الأتراك واليونانيين، الشيء الذي لم يكن يخطر ببالهن قبل هذه اللحظة... ؛ وعند الوداع ودعن تشيخوف بمرح قائلات: سنرسل لك أنواعا من المربى !

يروي مكسيم_غوركي هذه الحكاية عن تشيخوف موضحاً بساطة تشيخوف وصدقه إذ كانت لديه طريقة مميزة في تبسيط الناس .

" ينبغي أن يتحدث كل شخص لغته " هكذا رد تشيخوف على صديقه مكسيم_غوركي الذي أُعجب بكلامه مع تلك النسوة ... ؛ أي ينبغي أن يقول الناس ويفعلوا الشيء الذي يروق لهم دون داعٍ للتكلف والتصنع لمجاراة الغير وارضاءهم ... .

لا تسمح لأحد أن يجرك حيث يريد ويرغب ، فأنت لستَ مجبرًا أن تشارك الاخرين همومهم وافراحهم واحزانهم ومشاريعهم وفعالياتهم وجرائمهم واخطائهم ... الخ ؛ فلست مجبرا على ان تشارك في كل نزال تدعى اليه , ولا كل حوار يُفتح لك بابه , او ان تقدم كشفا بتحركاتك ومشاريعك للغير او تبريرا لتصرفاتك ومواقفك ؛ فالإنسان الحر ليس مديناً بشرح متغيرات حياته وتصرفاته لأحد مهما يكن إلا بمحض إرادته , و ليس من الحكمة ان تهمل مشروعك من اجل اكمال مشاريع الاخرين او المشاركة فيها , او تغض الطرف عن معركتك الخاصة ؛ للدخول في معارك الاخرين التافهة او التي لا ناقة لك فيها ولا جمل ... ؛ وعندما تدخل في دوامة الاخرين فأعلم بأنك لا تضيف شيئًا لرصيك المعرفي او المادي ، وأنّك تضيع على نفسك وقتًا يمكنك من خلاله قراءة كتاب ، أو مجالسة مثقف، أو إنجاز عمل مفيد، او ممارسة هواية ... الخ ؛ واعلم بأن تفاعلك مع هذه الجماعات والفئات والشخصيات التي لا تربطك بها اية رابطة جوهرية او اواصر حميمية انما هو على حساب وقتك وصحتك ومشاريعك ومستقبلك ... ؛ واخطر هذه الجماعات والشخصيات تلك التي تؤمن بالمبدأ الهدام : ( كن مِثلي ولا تخالفني ) و ( واسمع ولا تعترض او تستشكل ) لذلك اهرب منهم هروبك من الاسد , فأمثال هؤلاء يصادرون رايك وحريتك وفكرك ... ؛ واقطع علاقاتك بهم ؛ وابحث عن نصفك الاخر : الثقافي والفكري والاخلاقي لعلك تجده وتعثر عليه بين ركام المخلوقات البائسة والتجمعات المستنسخة والشخصيات المكررة ... ؛ ولا تحزن عندما تقطع علاقاتك بالآخرين او اذا هم بادروا الى ذلك قبلك , ولا تقطع الامل بتكوين علاقات سليمة وايجابية بسبب تجاربك الفاشلة مع الصداقات المزيفة والعلاقات السامة ؛ ولعل الابيات الشعرية المنسوبة للإمام الشافعي , توضح لنا ذلك بما لا مزيد عليه :

إِذا المَرءُ لا يَرعاكَ إِلّا تَكَلُّفاً *** فَدَعهُ وَلا تُكثِر عَلَيهِ التَأَسُّفا

فَفي الناسِ أَبدالٌ وَفي التَركِ راحَةٌ *** وَفي القَلبِ صَبرٌ لِلحَبيبِ وَلَو جَفا

فَما كُلُّ مَن تَهواهُ يَهواكَ قَلبُهُ *** وَلا كُلُّ مَن صافَيتَهُ لَكَ قَد صَفا

إِذا لَم يَكُن صَفوُ الوِدادِ طَبيعَةً *** فَلا خَيرَ في وِدٍّ يَجيءُ تَكَلُّفا

وفي الختام لست مضطرا أن تكون شخصا مثاليا في تعاملك مع الآخرين او ان تتدعي الكمال وتسعى اليه , فينتابك القلق كلما ارتكبت خطأ بسيطا او تصرفت تصرفا سلبيا عفويا ؛ فنحن بشر نخطئ ونصيب , والعصمة لأهلها كما قيل قديما ... ؛ والناس ليسوا اعرف منك بشخصك ونفسك ومصلحتك ؛ لذا لا تهتم لكل ما يقال ولا تتأثر بالنقد الهدام والكلام الجارح ؛ انما عليك الاهتمام بوجدانك وضميرك وقلبك فهو معيارك الاخلاقي والاعتناء بنفسك لأنها رفيقك الابدي ؛ فتعامل معها بكل مصداقية وشفافية واحترام ؛ واعرف جوهرها وتعرف على حدودها و وسعها ولا تحملها فوق طاقتها ؛ وكن متصالحا معها ؛ وقد اشار الى اهمية هذا الامر الامام علي ؛ اذ قال : (( ما هلك امرؤ عرف قدره )) اي عرف قدر نفسه , ومنزلته ومقدار قوته وطاقته ؛ والذي يعرف ما له وما عليه ؛ فهو على نفسه بصيرة , فمن عرف أنه ليس من أهل الشجاعة لم يلق نفسه إلى المهالك والمحارب والمعارك ، وكذا من عرف أنه ليس من اهل العلم والمعرفة لم يسم بسيماء العلماء والخبراء ... الخ ، ويدل على هذا الكلام بمفهومه ان من ساق نفسه إلى أمر خارج عن مقداره , متجاوز عن حده ومرتبته ؛ فقد عرض نفسه على الهلاك حقيقة كالجبان الذي يتشجع ويدخل في الحرب ؛ أو كالجاهل الذي يتشبه بالعالم ويجلس في مجلس العلم والتدريس ... . (1)

................................................................................

1- شرح كلمات أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) - عبد الوهاب - الصفحة ٨ / بتصرف .

2- مصادر اخرى . 





  • رياض سعد
    كاتب وباحث مهتم في شؤون الامة العراقية ومعني بالدفاع عن الاغلبية العراقية وحقوق الانسان