علي بانافع
خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان سياسي مخضرم أو إن شئت أرقم يتولى العمل العام منذ كان المخلوع علي صالح هائماً على وجهه بسنحان؛ وهو بلا جدال من أذكى أبناء الملك المؤسس عبد العزيز؛ ولاَّه أخوه الملك سعود -الذي لا تخطىء فراسته- إمارة الرياض قبل أن يتم العشرين من عمره؛ وفي ظروف قاسية على الجميع بعد حادثة مشهورة، وهو أحد أهم أركان العائلة المالكة السعودية، إذ هو أمين سر العائلة ورئيس مجلسها، والمستشار الشخصي لملوك المملكة عبر تاريخها الطويل، كما أنه أباً للتاريخ والمؤرخين في المملكة والعالمين العربي والإسلامي ..
لما وقعت الفتنة الناصرية في اليمن، وواجهت المملكة أول تهديد حقيقي من الخارج، بعد سقوط العرش الهاشمي في العراق، كان شقيقه الأكبر الأمير سلطان هو الذي تولى المسألة اليمنية ففتل -كما يقولون- لعبد الناصر والسلال بين الذروة والغارب، واستطاع أن يجيش الجيوش ويؤلب القبائل ويدخل السلاح ويلعب بالسياسيين حتى حصر الخطر في اليمن وصفاه، ولا شك أن أي عسكري في اليمن مهما بلغ مركزه يعرف أن للأمير سلطان في اليمن من الجبل للساحل من الولاءات والاتصالات بل الخبرة ما يحبط أحلام أي مغامر، وكان من أهم عوامل نجاح الملك فيصل -ونجاح المملكة- في تخطي أزمات العهد الناصري كله، تصديه لإنقاذ المملكة والعالم العربي -في آن معاً- من الأزمات السياسية والاقتصادية التي سببتها سياسات عبد الناصر الحمقاء، الذي زعم أن اليمن مقدمة لتحرير فلسطين فخسر نفسه وخسر هناك جيشه، ويوم كان الأمريكان والإنجليز يراهنون كل شهر على سقوط نظام الحكم في المملكة، واستحالة أن تقدر المملكة على مواجهة الحيوان المنقرض المد الاشتراكي الشيوعي الثوري التقدمي العلماني الناصري البعثي كما كانوا يسمون حركات الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، ويوم كانت النظم تتهاوى والانقلابات تصبغ حياة البلدان العربية عن يمين المملكة وشمالها ومن فوقها ومن تحتها، وبقي نظامها وحده راسخاً لأكثر من ستين سنة؛ والبعض يستطيع القول بل تسعين سنة، هذا الاستقرار الذي كانت دعامته الرئيسة الحكم بما أنزل الله، ثم العائلة المالكة السعودية الذين تربطهم مصاهرات مع جميع القبائل ذات الثقل في المملكة، في تلك الفترة كان الملك فيصل يكاد يتبنى الملك سلمان فهو كاتم سره وساعده الأيمن ومستشاره ومنفذ أفكاره؛ فكان أول من يراه وآخر من يفارقه والعجيب أن التاريخ يعيد نفسه فبعد أكثر من خمسين سنة من ذلك التاريخ، عندما تهدد الخطر الحوثي المملكة في الجنوب فإن الملك سلمان هو الذي تولى مسؤلية المواجهة ضد -هذا الخطر- على خط النار وعلى جبهة السياسة والإعلام معاً.
اليوم وقرب حلول الذكرى الثانية لعاصفة الحزم ما زال الذين ارتكبوا الخطيئة الكُبرى الحوثي وصالح بعدم تسليم السلطة للشرعية؛ حتى أطبق عليهم فخ التحالف يرفضون ممارسة النقد الذاتي، ولا أحد منهم يتنبه لما تدبره إيران للأمة العربية -الآن- وينفذه المخلوع صالح بحذافيره، لقد اشتبك صالح مع الحوثي في حروب ضارية استمرت ثماني سنين، كدَّس فيها كميات هائلة من الأسلحة التي عرف العالم خطورتها -لأنه هو الذي أمده بها- فلما طلب الحوثي الصلح بعد أن تملكه اليأس من نتيجة القتال، اعتبر صالح -الذي أفقده الغرور وعيه- أنه قد كسب الحرب، وعلى أية حال فإن هذه الحروب التي خاضها صالح والحوثي كانت مقبرة لآلاف من الشباب، وكان الدمار الذي خلفته بعيد المدى، ولم يبال بسيل الدماء المسفوكة والأموال الهالكة، وورائه جيش كثيف ومعه سلاح مكدس وفي رأسه أحلام شتى!! ومن سماته الملحوظة خلال فوران الجحيم العربي 2011 رفضه الاعتراف بأنه يفقد سيطرته وبأن جهاز السلطة التابع له ينهار كله أمام ناظريه، وبعد ظهوره على التلفزيون مرضرضاً ومكسّراً ومحروقاً ومشوهاً، فكر ثم دبر ثم قرر مع بعض الموالين في حمل السلاح في محاولة يائسة لدعم منصبه (كرئيس للدولة) فلم يفلح!! فحول فوهة بندقيته بعد أن تحالف مع عدو الأمس -الحوثي- لتهديد الأراضي السعودية دون اكتراث بحق الجوار، ودون رعاية لقوانين الأخلاق ودون إحساس بجميل سابق -معروفه أكبر من يُنكر- ودون خجل أو وجل من دول الخليج كلها ومن جماهير المسلمين قبل ذلك وبعده ..
فالمخلوع والحوثي هما العنصر الأساس في نجاح المخطط الإيراني في ضرب أمن المنطقة والعرب؛ ويعرفان جيدا أنهما خسرا الحرب، لكنهما أدوات بيد إيران!! وإيران تريد تطويل أمد الصراع ليكون اليمن ورقة مساومة بيدها، والحقيقة أن صمود -إيران- بدأ يتزعزع!! ففي الماضي القريب أراد الشاه (محمد رضا بهلوي) في أواخر حكمه أن يكون الشرطي الوحيد في الخليج فرفضته القوى الكبرى، لكنه حاول أن يفرضه كأمر واقع فكانت أحد أسباب نهايته!! اليوم تحاول إيران أن تعيد نفس الدور، وتفرض أمرها الواقع في ظل معطيات عالمية وإقليمية جديدة، لكنها ستفشل وستنهار بإذن الله، إيران تمتلك مشروعاً قومياً فارسياً شيعياً وعاصفة الحزم مشروعاً سعودياً عربياً سنياً مضاداً ومقاوماً للمشروع الإيراني يوقفه عند حده، وعاصفة الحزم مصيرية للمنطقة إما تغول إيران وإما كسر الشوكة، ومهما أنفق فيها من مال فليس بالقليل -وكما أشرت في مقالة سابقة- أن إيران في المصيدة، ومظاهر الحرب الدموية التي تقودها إيران في سوريا والعراق واليمن لا تعني انتشار التشيع الفارسي القومي الصفوي الدموي!! ثلاثة عقود من الدماء وأموال البترول وما يزال مشروعهم في تخبط ولم يتخط شيعتهم؟! مشروع التشيع ما يزال يواجه عقبات كؤوداً وحروباً مضنية في العراق وسوريا واليمن وازدادت الأمة بصيرة بمشروعهم النازي الدموي فتحققت المناعة التامة من هذا الوباء العضال.
من يخاف الحسم في اليمن؟! غير المجرمين والقتلة والمرتزقة والعملاء والدجالين، ومن يخشى الحسم في اليمن؟! غير النصابين واللصوص المحترفين والعبيد والخونة، أما نحن الحريصون على الحسم والحزم في اليمن لكشف الحقائق المغيبة والمطموسة -والأكثر حرصاً من الحوثي وصالح وخامئني- الشرفاء والوطنيون والأحرار وذوو الأيادي البيضاء النظيفة لا يخشون الحسم والحزم في اليمن، بل يؤيدونه بعقولهم وقلوبهم، ليس لأنه ينقذهم من الغش والخداع والكذب والتضليل فقط، بل لأنه سلاحهم الأمضى في مواجهة قوى الظلام والشر والطغيان، لقد وضعت عاصفة الحزم المملكة والعالمين العربي والإسلامي بل العالم بأسره أمام تحديات وأخطار صعبة؛ تتطلب مواجهتها والخروج منها بقراءة جيدة ومتأنية، ومن لا يقرأ التاريخ جيداً لا يعرف كيف يشق طريقه نحو المستقبل وسط الأطماع والأكاذيب والتلفيقات والتهديدات والألغام الكثيرة المحيطة به من الخارج.
في هذا السياق أُحب أن أورد مشهداً حقيقياً ذكره الصحافي محمد حسنين هيكل في كتابه (الطريق إلى رمضان) وقد دار هذا المشهد بمؤتمر القاهرة (أيلول/ سبتمبر 1970) قبيل وفاة عبد الناصر بساعات، هذا المشهد الغريب والطريف كان يجمع الملك الشهيد فيصل المعروف بالاعتدال وحُسن التصرف بالزعيمين الثوريين عبد الناصر والقذافي، ويكشف عن شخصية هذين الزعيمين كحقيقة واقعية بل وإنعكاس لذواتهم المعنوية على ممارساتهم السياسية وعلاقاتهم الاجتماعية كما يراها الناس ويوقنون بوجودها، فإلى المشهد:
◀القذافي: إذا كُنَّا نواجه مجنوناً كحسين يريد أن يقتل شعبه؟! فلا بُدَّ من إرسال من يقبض عليه ويضع الأغلال في يديه، ويمنعه من فعل ما يفعل، ويُحيله على مستشفى مجانين؟!
◀الملك فيصل: لا أظنّ من اللائق أن تصف ملكاً عربياً بأنه مجنون؟! يجب أن يُوضع في مستشفى مجانين ..
◀القذافي: لكن أسرته كلّها مجانين؟! والمسألة مسألة سجل ..
◀الملك فيصل: حسناً؛ ربما كنّا كلّنا مجانين؟!
◀ عبد الناصر: في بعض الأحيان حين ترون جلالتكم وما يجري في العالم العربي، فإن ذلك يصبح صحيحاً، وأقترح أن نُعيِّن طبيباً يُعايننا بصورة منتظمة ليتبيَّنْ من هم المجانين من بيننا؟!
◀الملك فيصل: أرى أن يبدأ طبيبك بي، لأني أشكّ، بالنظر إلى ما أراه، في أني أستطيع الاحتفاظ بتعقّلي ...
هذا الحوار الجريء الذي دار منذ أكثر من خمسةٍ وأربعين سنة -يثبت بما لا يدع مجالاً للشك- حالة النرجسيَّة المستفحلة والسلطة المطلقة وجنون العظمة في نفوس الزعماء الثوريبن المتهورين أمثال عبد الناصر والقذافي وصالح وبشار ومن لف لفهم، أغلب الزعماء العرب -وخصوصاً الثوريين- مصابين بعبادة الذات والرغبة في تكوين امبراطورية يكون فيها الفرعون الأكبر، وقد دفعت الشعوب العربية المغبونة ثمن هذه الأطماع الطائشة في حروب كانت تنقصها الغاية الشريفة، والوسائل النظيفة، والحقيقة أن لدى هؤلاء -الزعماء- خلل في تكوين شخصياتهم، ربما يعود ذلك إلى صدمات الطفولة أو بتأثير من تاريخ عائلاتهم ومحيطهم الاجتماعي، فهل هم أصحاء في الأساس أم السلطة أفسدتهم جميعاً؟! وكيف نفهم شذوذ تصرفات أولئك الزعماء؟! لذلك كان لا بُدَّ من إحالتهم جميعاً إلى عيادات الطب النفسي وأن يُشَرَعْ في فحص سريري لاضطرابات الشخصية لديهم، وليس عبد الناصر والقذافي وصالح وأمثالهم شخصيات غامضة وحسب بل تشكل -أيضا- أنواعاً من أشكال أدب التحليل النفسي، لقد رحل عبد الناصر في ظروف غامضة، وتم القبض على القذافي ثم قُتل شر قتله، وتنحى مبارك وهرب بن علي، ولا زال بشار وصالح، متمسكين بالسلطة ولو على الدماء والأشلاء، وهكذا يكون الإطار النفسي لمن شاء أن يكون رئيساً مدى الحياة؟! تجري على لسانه فرية فرعون مصر عندما قال لقومه: (أنا ربكم الأعلى) ..