منذُ كان نذير صبيا يفكر , يتأمل , يسأل ... ؛ بينما الصبية من أقرانه يلعبون ويمرحون ... .
شيءٌ غامضٌ يشده للتعلق بفكرة الله والبحث عنها ... ؛ و في زقاقه كما في باقي أزقة الوطن كان سبُ الله أمرٌ متعارفٌ وشائعٌ بين الصبيان والشباب بل وحتى بعض الكبار في السن ... !!
وفي احدى المرات ؛ قام احد الأطفال بسب الله أمام نذير ؛ فبادره نذير بلطمة على وجهه و سالت الدماء على إثرها ... ؛ فجاء أهل الطفل الملكوم يشكون نذيرا إلى أهله ... :
- ام الطفل الملكوم قالت : أن ابنكم نذير قد ضرب ابني محمد , لماذا ؟
- أم نذير ؛ التفت الى ابنا قائلة : لماذا ضربت الولد ؟
- فأجاب نذير بغضب وانفعال : لأنه سب الله .
- واعترضت أم محمد قائلة : وهل الله احد أقربائكم كي تتولى الدفاع عنه , دون باقي الأطفال الذين هم في عمرك , تبا لك , إن عدت إلى ضرب ولدي محمد فلا تلومن إلا نفسك ... ؛ وذهبت غاضبة ... .
و كلما كبر نذير كبر الهم والقلق الوجودي معه , وكلما ازدادت سنوات عمره زادت أسئلته واستفساراته اللاهوتية ... ؛ الا انه كان يشعر بسعادة غامرة وطمأنينة وسكينة في الوقت نفسه .
وقد لاحظت المعلمة ساجدة ذكاء نذير وحدة ملاحظاته ونظافة ملابسه ؛ فأولته رعاية خاصة منذ البداية , وهو بدوره نال إعجابها بمرور الزمن ... ؛ لاسيما بعد نجاحه الى صف الرابع الابتدائي ؛ لان الإنشاء الذي كان يكتبه مميزا وجميلا وحافلا بالمعاني العميقة و التي قد لا تنسجم مع عمره ومستواه الدراسي ... , وقد جلبت له الكتيبات والمجلات - ( مجلة المزمار , ومجلتي ) - , ثم الكتب فيما بعد ؛ وتطورت ذهنيته وعلا مستواه الثقافي وتفوق في الدراسة ... , و لعل السبب في ذلك أمران يعتملان في صدره : الأول بحثه عن الحقيقة المطلقة , والثاني حبه وتقديره للجمال ,فقد كانت معلمته وعشيقته ساجدة جميلة جدا ؛ خصوصا وان الفوارق بين العطف والحب , والرعاية والعشق , والاهتمام والهيام تكاد لا ترى في بعض الأحيان , إذ قد تختلط الاوراق اختلاط الحابل بالنابل ... .
كثيرا ما تبادلا النظرات البريئة والتي ملئوها الإعجاب والافتتان الخالي من الموبقات , وتناقشا في مواضيع شتى ... , وأخيرا بعد ان أينعت الثمرة واتت أكلها ؛ حل ما لم يكن بالحسبان , فقد نجح نذير من السادس الابتدائي ؛ نجاحٌ مقرونٌ بصفاء بشرة وروحية المراهق , و ممزوجٌ بقوة الشباب وحيويته , فضلا عن عيونه الواسعة النرجسية , وشفاهه الوردية , وخدوده البيضاء التي تشبه التفاح ... , رافقته الست ساجدة طيلة ست سنوات وهي تنظر إليه كيف يكبر وينمو حتى إذا بلغ أشده ؛ جاء الوداع و جاءت لحظة انفصال الأرواح المنسجمة - بالرغم من الفوارق العمرية والاجتماعية - , هيام الأرواح وعشق النفوس لا يعترفا بالحدود والفوارق اين كانت .
الا ان الامر الذي قد يقلق الطرفان ومن على شاكلتهما ؛ انهما يعيشان في بلاد كان كل شيء فيها يدور بين هذه الخطوط الحمراء : العيب – الشين – العار – الممنوع – المحرم – الخطر – المحظور – مواطن ومواقف الريبة والشك وسوء ظن من قبل الاخرين - , إذ إن البيئة الاجتماعية الخاصة بنذير مغلقة ومحافظة , والمجتمع وقتذاك لا يسمح بإقامة مثل هكذا علاقات حتى لو كانت عذرية وفي جوار الكعبة ... , فأغلب ابناء المجتمع كانوا لا يفقهون لغة الأرواح والنفوس والعقول , أنما هم عارفون بمحاذير الجنس والاختلاط و لغة الجسد فحسب ... ؛ الا ان المفارقة الغريبة والتي لازمت نذير طوال ايام الدوام في صف السادس الابتدائي انتصاب قضيبه وشدة شبقه الجنسي ؛ والذي قد يقترن احيانا برؤية الست ساجدة بصورة غير مقصودة ( لاشعورية ) ويتزامن بالحديث معها ... ؛ وقد تخلص نذير من هذا الشعور المؤلم والمزعج عندما دخل المتوسطة ولم يعد يرى الست ساجدة التي كان يكن لها عظيم الود والتقدير والاحترام والذي قد يشبه التقديس الى حد ما ... ؛ الا انه مارس العادة السرية كثيرا وهو يسرح في خياله ويحلم بممارسة الجنس مع معلمته الجديدة في المتوسطة والتي كانت على عكس طباع الست ساجدة الطيبة المحترمة الخلوقة الوقورة ؛ فقد كانت ست مديحة متبرجة ومستهترة جدا , وكانت احدى رفيقات حزب البعث , وعضوة في اتحاد نساء العراق آنذاك .
ودارت الأيام , ودخل نذير عالم المتوسطة , دنيا المراهقين , و أحاديث الجنس والفتيات , والأفلام والمغامرات والصور الخليعة , والنزهات والسفرات , والقيل والقال ... ؛ الا انه لم يجد بغيته في هذه الترهات , وضاق ذرعا بهذه المدرسة التي يترأس مجلس أدارته رجل (بوليس ) مجرم لا تعرف الرحمة إلى قلبه سبيلا ... , واستمرت الحال على هذا المنوال حتى تعرف نذير على صديق جديد ؛ اسمه راضي ؛ وكان مختلفا عن باقي الطلبة السذج أو الذين يصطنعون السذاجة و التافهين والسطحيين ... ؛ الا انه كان متعصبا منغلقا وسوداويا وطوباويا وماضويا ايضا ؛ وكان على خلاف طباع ابيه المتوفى .
دارت الأحاديث بينهما , وتوثقت عرى صداقتهما , وقد غير راضي تفكير نذير وأعطاه شحنة روحية للسير في دروب الحقيقة والافاق الغيبية والعوالم الماورائية , ولا عجب في ذلك , إذ ترعرع راضي في كنف والده المعدوم الذي قتل غدرا وظلما لا لذنب فعله أو جريرة ارتكبها , كل جرمه يكمن في بحثه عن الله , وعن الحقيقة , وعن القيم الاخلاقية والروحية السامية ... ؛ والتي كانت توصف من قبل اجهزة الدولة القمعية بالرجعية والشعوبية ...!! .
تحول نذير من شخص حر يكره القيود بكل أشكالها ويحب الحياة إلى إنسان أخر , يبحث عن قيود تهذبه وتقربه من الله ... ؛ وأصبح متدينا , بل ومتعصبا ... , وعطل قواه الجسدية وطاقاته الشبابية , إذ قضى اغلب الأيام بالصيام حتى أصيب بفقر الدم والضعف العام والهزال , و لازم صلاة الليل وعزف عن النوم فصاحبه الأرق والخمول ... , حتى الأيام البريئة التي قضاها مع الست ساجدة والتي كان سعيدٌ فيها ؛ ندم عليها واستغفر الله منها ...!!
يمشي ونظره إلى الأرض , يكاد لا يرفع رأسه قط , لا ينظر إلى شيء ؛ يمشي بخط مستقيم كأنه إنسان آلي يعمل ب ( الريموند كونترول ) مسيرا الى درب لا يعرف قراره , ومربوطا بالكتب العتيقة ... ؛ حتى ممارسة العادة السرية والتي كانت ملجئه الوحيد للتنفيس عن طاقته الجنسية المكبوتة ؛ بغضها وتركها ... .
وقد قرر حلق رأسه في احد الايام , والاعتزال ؛ فامتعضت عمته , قائلة : ماذا تفعل بنفسك يا بني ؛ الشباب يفتخرون بالشعر الجميل والطويل وأنت تحلقه وتصبح اصلعا ؛ ماذا دهاك ؟؟!!
حلقه غير آسف عليه , و لا آبه بما قالته عمته المسكينة التي تقطعت نياط قلبها لهذا المنظر الغريب والبشع ... ! .
وبعد ثلاثة ايام من هذه الحادثة ؛ جاءت الست ساجدة صدفة مع احدى المعلمات ؛ من امام بيت نذير الذي كان يطل على الشارع العام ولا يبعد عن المدرسة سوى خطوات معدودة , فطرقت باب الدار للسؤال والاستفسار عن نذير ؛ وقد فتحت الباب ام نذير , واستقبلت الست ساجدة وصديقتها بالتحية والسلام , وذهبت مسرعة الى نذير, وقد كان معتكفا في غرفته الخاصة او بالأحرى صومعته ؛ واخبرته امه بالأمر ؛ فما كان منه الا ان زجر امه وبصوت عال : الا تخافي الله , اذهبي واطرديها من الدار فورا ...!! .