في هذه الحياة، تتفاوت أرزاقُ الناس بين غنيٍّ وفقير، وتتفاوت المصائب في وَقْعِها بين شديدٍ مؤلم، وخفيفٍ عابر، وأستطيع القول بأنْ الحظوظ متفاوتةٌ بين الناس، فتجد صاحبها لا يشعر بها إلا بعد فواتها، وتجد الأَرِقَ الـمُنْتَظِر لنيل هذه الفرصة يزول بفنائه قبل أنْ يلقاها، ولا أدّعي أنّ الاهتمامات متساوية بين الناس، فكم سمعنا ورأينا حظوظ بعض البشر، في مصاحبة أو مصادفة أحد (العلماء، أو الأدباء، أو المفكرين)، وتجده لا يبالي بذلك، ويراه شيئاً بسيطاً لا معنى له، أمّا نحن فنموت حسرةً لذهاب هذه الفرصة لمن لا يستحق، ومن باب الاسترسال والمؤانسة، سأسرد قصتين، الأولى واقعية عايشتها وسمعتها، والأخرى نُقِلت لي من ثقةٍ أعرفه جيداً وأعلم صدقه، والله على ما أقول شهيد.
* في أحد الأيام جاء الشيخ الجليل [عبدالعزيز الراجحي] أحد العلماء الأعلام المعاصرين إلى مكتب والدي -رحمه الله-، بعد أنْ ترك دَرْسه الذي يلقيه كُلَّ يوم، وكان سبب مجيئه أنْ له ابناً صغيراً قد أنقطع عن مصاحبته في الدروس، وكأنّه تمرّد على ذلك وأراد أنْ يسلك طريقاً بعيداً عن طريق والده الشيخ، ففهم شيخنا مغزى الابن، وقال لوالدي -رحمه الله- : إنّ ابني يحب أبنائك ويسعى جاهداً للجلوس معهم ومسامرتهم، وأعلم أنّ أبنائك كبارٌ في السن، وسَيُقَوّمُون أعماله، ويُعدّلون اعوجاجه، ويرشدونه إنْ أخطأ، أرجو أنْ تسمح له بمجالستهم وتستأذنهم بذلك. فما كان مِنْ والدي -رحمه الله- إلا أنْ قال له : مِثلُك يا شيخنا يُؤتى له، لا يأتي لنا، ومجيئك لنا فضلٌ منك علينا، وإنْ جئناك فذاك لفضلك ومكانتك، أعتبر أنّ ابنك واحداً من أبنائي، فشكره الشيخ وقال : إني أخاف على ابني من الشارع، ولكنه إذا كان عند أبنائك فقلبي يطمئن عليه، ورحل.
* حَدّثني أحد الموظفين من الجنسية المصرية، وهو كبيرٌ في السن، أنّه في بداية الثمانينيات القرن الماضي، كان يعمل سباكاً في أحد الكازينوهات التي تطل على النيل في القاهرة، ويقول :(كان عملي بالكازينو دائماً في الصباح الباكر لقلّة الناس والزبائن، ولعدم إزعاجهم، وذات مساء حدثت مشكلة في الكازينو الذي أعمل به، فتمّ إخباري أنا ورفاقي، فأتينا لحل المشكلة، ولازلنا عاكفين على إصلاح العطل الطارئ، إذ بي أرى رجلاً بجانبه الشاي، وبيده السيجارة، يتحدث مع نفسه ويكتب على طاولةٍ بعيدةٍ لوحده، فسألت الرفاق، مَنْ هذا؟ قالوا : يُقال أنه أديب ويكتب القصص والروايات، وأكثرها عُرضت في السينما. فزاد فضولي أنْ أعرفَ من هو، فقال لي أحد الزبائن بعد أنْ سَمِعَ سؤالي : ألا تعرف من هذا؟ إنّه [نجيب محفوظ]، فقلت لهم : هذا الرجل مجنون، يُحدّث نفسه، ويجلس لوحده! فضحك الرفاق..)، وأكمل قائلاً : لم أعرف قيمته إلا بعد سنوات قليلة حينما حصل على نوبل للآداب عام [1988]م، فندمت ندماً شديداً كيف فرّطت في فرصة الحديث معه، ومعروف عنه مجاملته للناس وملاطفته، كنت شاباً أحمقاً لا أفهم شيئاً.
* وفي الختام لا يسعني سوى قول القائل :[ديك المحظوظ يبيض].