د. علي بانافع
أود أن ابدأ هذا المقال بالاعتذار للقارىء الكريم عما فيه من تطويل يدعوا إلى السأم، ولقد قصدت أن أضع بين يدي القارىء الكريم ملخصاً لما سيجده بعد ذلك مفصلاً في ثنايا هذا المقال، وقد وصلت إلى نتيجة قد تبدو غريبة عند البعض وقد لا يتقبلها البعض الآخر بل وقد يختلف معها؛ وإني لأحسب أن البعض الثالث لا يجد من الفراغ ما يستطيع به أن يقرأ هذا المقال، وأما الذي لا يجد من نفسه ولعاً بالتاريخ فأرجو أن يقف عند هذا الحد فلا يتعداه فيريح ويستريح ..
ظاهرة جديدة من مفرزات القرن الواحد والعشرين، الأسماء المُرمزة والمجاهيل، هؤلاء يتحكمون بعلم التاريخ في المواقع والمنتديات ووسائل التواصل الاجتماعي كأهل تاريخ، باعتبار المهم المطروح وليس منْ الطارح، التاريخ -يا سادة- له رموزه وأعلامه ولا يمكن للتاريخ أن يتزعمه أشخاص وهميين يخشون من إظهار أسمائهم!! ربما هذا في ظرف ما؟ أو موضوع ما؟ أمر مقبول، أما في علم التاريخ فأمره ليس كأمر السياسة، فلا ينبغي السماع لهؤلاء حتى لا تحدث فوضى علمية -وقد حدثت- المؤرخ وصاحب التاريخ شخص معروف في الواقع وليس في العالم الافتراضي، ويبدو أن التقنية الحديثة ستسبب لنا أمراضاً كثيرة؛ وقد حصل ذلك ..
فقد اُبتلينا في الآونة الأخيرة بفئة من الناس يريدون أن يكونوا مؤرخين -رغم آناف الناس جميعاً- بينما هم لا يعرفون من التاريخ سوى أسماء الأمكنة والأعلام والشوارع، ومشكلتنا في المواقع والمنتديات ووسائل التواصل الاجتماعي، أن كثيرين ممن اعتادوا السفر والسياحة نصبوا أنفسهم مؤرخين بدل أن يكونوا مرشدين، والحقيقة أن كثيرين منهم أساؤوا إلى التاريخ ومنهجه إساءة بالغة، إذ هم يتحولون في ميولهم التاريخية كدودة القز من طورٍ إلى طور دون يشعروا بدناءة ما يفعلون، فالتاريخ فنٌ من الفنون لا يجيده كل من هبْ ودبْ وهو علم وملكة لا يملكها كل أحد، أقول ذلك لأني أرى فئة من الناس يريدون أن يتكلموا بالتاريخ فأفسدوا وما أصلحوا، في الغرب المتحضر التاريخ اختصاص، لكن أهل السفر والسياحة أصبح عندهم ردة فعل من هذا الكلام!!
لما وقع المحظور وظهرت الدولة العثمانية ونشأت طبقة العسكر المحترفين وتولت الدفاع عن حدود الدولة الإسلامية ثم حكم الدولة الإسلامية، وعزلت القيادات المدنية من العلماء والفقهاء والتجار والأعيان؛ وأخضعت العامة وشلت تنظيماتهم وأخفت صوتهم بحجة أنه لا صوت يعلو فوق صوت المعركة أو الجهاد -بلغة ذلك العصر- والذي احتكره العسكر وحكموا البلاد والعباد زهاء ستة قرون على الأقل، مع ما في ذلك من مخالفة لتعاليم ديننا ومفاهيم وممارسات الجيل الأول الذي صنع الحضارة، فقد كان الجهاد في مفهومهم يعتمد على الأُمة المجاهدة لا الجيش المحترف، وأعلنوا أن ليس على العامة خروج!! هنا سقط المجتمع المدني في العالم العربي والإسلامي وبدأ ظهوره في أوروبا، فما سر الاعجاب بالعثمانيين؟! مع أن سبعاً وعشرين سلطاناً عثمانياً كانت الحجاز تحت حكمهم -ورغم ذلك- لم يَحِجْ أحداً منهم أو تشرف بالصلاة في الحرمين الشريفين، وحتى السلطان محمد وحيد الدين السادس -آخر سلاطينهم- فالبرغم من زيارته لمكة المكرمة إلا أنه إِعْتَمَرَ ولم يَحِجْ أيضاً، وقد جعلوا الحكم تركياً وليس إسلامياً بل احتكروه لأنفسهم طيلة ذلك التاريخ، وجعلوا أنفسهم أوصياء على شعب يفوقهم عدداً وحضارة وشجاعة، ما يستدعي وقفة لتذكير الحالمين بالترياق العثماني ببعض الحصاد المُّرْ الذي خلفه العثمانيون في البلاد العربية.
يجب أن نعلم -قبل كل شيء- أن الدولة العثمانية لم تكن في بداية أمرها دولة، بل كانت قبيلة بدوية من قبائل الغُّزْ التركية جاءت من تركستان الشرقية هرباً من غارات جنكيز خان؛ فاستوطنت في الأناضول تحت حكم السلاجقة الذين كانت عاصمتهم قونية، وقد طلب أرطغرل أحد رؤوساء القبيلة من السلطان السلجوقي علاء الدين شاه أن يقطعها أرضاً تعيش عليها؛ فأعطاها مقاطعة على بحر مرمرة إلى الجنوب من القسطنطينية عاصمة الدولة البيزنطية، وكانت الدولة البيزنطية آنذاك في انحلال عام تام؛ فانتهزت القبيلة العثمانية الفرصة وأخذت تشن عليها الغارات باسم الدين؛ مما جعلها تنمو في قوتها ورقعتها شيىاً فشيئاً، وقد شكل العثمانيون وحدات عسكرية خاصة عرفت باسم الإنكشارية -كان أغلبهم من البلقان- إضافة إلى الكثير من المتطوعين من مختلف الإمارات الإسلامية المجاورة ليقاتلوا معها، فكان كل فتح جديد يتم على يدها في بلاد الكفر -حسب تعبير ذلك الزمان- يرفع من مكانتها في نظر المسلمين ويقوي تيار المتطوعين في خدمتها، وتمكنت بفضل هذه القوات الجديدة من التوسع سريعاً في البلقان والأناضول معاً، فالدولة العثمانية منذ بداية ظهورها قامت على أساس العصبية والغزو وقد ظلت كذلك طيلة حياتها تقريباً، فكانت تفاخر بالفتح والغنيمة أكثر مما تفاخر بالعمران والعدل، وكان السلاطين فيها يهتمون بتشييد المساجد والتكايا وبتخصيص الأوقاف الواسعة أكثر مما يهتمون بتنمية المرافق العامة ووسائل الانتاج ..
من وجهة نظري لا نستطيع أن نفهم تاريخ العرب الحديث -في وضعه الراهن- ما لم نرجع إلى الوضع الذي كان عليه العرب في العهد العثماني؛ فقد ظل العهد العثماني مسيطراً على البلاد العربية زهاء أربعة قرون، ولم ينقشع عنها إلا خلال الحرب العالمية الأولى -أي منذ قرن تقريباً- معنى ذلك أن الظروف السياسية والتاريخية التي ظهرت أو كانت سائدة في العهد العثماني لا تزال مؤثرة فينا بصورة مباشرة أو غير مباشرة، فقد تمكن السلطان العثماني سليم الأول (القاطع) من ضم البلاد العربية الشام ومصر والحجاز، وبلغت الدولة العثمانية أوجها في عهد ابنه سليمان الأول (القانوني) الذي بسط نفوذه على العراق واليمن وباقي شبه الجزيرة العربية؛ وسيطر على حوض البحر المتوسط وأخضع دول المغرب الثلاث الجزائر وتونس ثم ليبيا قبل أن يُحاصر ڤيينا، وقد تسببت التبعية السياسية للبلاد العربية للدولة العثمانية في اطراد التخلف الاجتماعي والجمود الفكري وتراجع مختلف نواحي الحياة الحضارية، صحيح أن العثمانيين رفعوا راية الخلافة واستطاعوا في زحف باهر أن يخترقوا مشارق أوروبا حتى النمسا وهددوا عاصمتها ڤيينا مرتين، لكنهم لم يحركوا ساكناً لإنقاذ ثمانية ملايين عربي مسلم في الأندلس، حيث جرت أول وأضخم عملية إبادة جماعية لشعب بأكمله على يد الكنيسة والدولة الكاثوليكية في أسبانيا والبرتغال، ولا يوجد مرجع عثماني أو غربي حاول أن يُفسر -ولا أقول يُدين- لغز اختفاء شعب بأكمله، وزوال حضارة دامت حوالي ثمانية قرون، لقد كان العثمانيون وهم يدقون أسوار ڤيينا قوة عسكرية ولم يكونوا فجراً ثقافياً جديداً، فكان التوسع الإسلامي خالياً من بذور الحضارة الأولى ومن أسباب الحياة الصحيحة، فسرعان ما انهار وانهار العالم الإسلامي بعده وأصبح أثراً بعد عين!!
غير دقيق القول أن العثمانيين حالوا دون سيطرة قوى الاستعمار الأوروبي على البلاد العربية، فلا ننسى حملة نابليون بونابرت على مصر، فهذه الحملة أو المحاولة تعتبر أول غزو واحتلال عسكري أوروبي نصراني في التاريخ لبلد عربي إسلامي من بلاد الدولة العثمانية، وهذا الغزو سبقته سيطرة الدول الاستعمارية الكبرى؛ بريطانيا وفرنسا وهولندا على دول وإمارات إسلامية في أواسط آسيا وجزر الهند الشرقية وشبه القارة الهندية، غير أن هذه السيطرة المبكرة لم تمس قلب العروبة النابض كما فعلت حملة نابليون بونابرت على مصر، إضافة إلى أن كلاً من المغرب وعُمان تمكنت بقواها الذاتية من صد هجمات طلائع الاستعمار الأوروبي دون مساعدة العثمانيين لهم في جهادهم، فيما اُحتلت كل من الجزائر وتونس ومصر وليبيا وجنوبي اليمن وهي تابعة للدولة العثمانية؛ فضلاً عن تغلغل النفوذ الاقتصادي والثقافي الأوروبي في بقية البلاد العربية خلال القرنين الأخيرين من العهد العثماني.
في الحرب العالمية الأولى ضحكت ألمانيا على الدولة العثمانية وأدخلتها معها الحرب وأنهت الدولة العثمانية بهذه المشاركة والموقف السياسي الخاطىء، مما أدى إلى سايكس بيكو وسان ريمون ومزق دولنا العربية فقد ربطنا مع الدولة العثمانية بخيرها وشرها، فمنذ أن غادرت الدولة العثمانية ودولنا تهرب للغرب لا للإسلام!! ولم تتقدم للغرب كما زعمت بل حاربت الدين فقط!! وأبقت التخلف فينا بسبب تخلف أنظمة الحكم؛ ولكونها لا تملك حتى مشروعاً تغريبياً؛ وليتها طورتنا وأحدثت تقنيات صناعية أو تطور عمراني أو اقتصادي، فالتخلف يضرب بأطنابه وحركة دولنا نحو التطور الغربي كالسلحفاة، أما الدين فحورب بإستثناء بعض الدول وبنسب مختلفة، 99% نسبة الأمية في الدول العربية والإسلامية في غير تركيا إبان الدولة العثمانية؛ ويريدون الخلافة أن تبقى أمام الغرب؟!
نحن العرب تبعنا القائد المسلم العثماني وكانوا في معظمهم من الجهلة الأميين، ومن أصول مختلفة (تركية وشركسية ويونانية وألبانية وإيطالية ...الخ) ولذلك كانوا ينعتون بالعلوج، كما كانوا مغامرين لا فائدة لهم في الحكم إلا جمع الضرائب والأموال والتجنيد والتسلط، دولنا العربية قاطبة كانت تحت الحكم العثماني المسلم، وجلبوا لنا ولاةً وحكاماً من كل العالم إلا العربي كان لا يصلح للقيادة؟! إلاِّ لحمل الأثقال وسوق الحمير!! وقبلنا لكن بلداننا العربية كان ضحية السياسة العثمانية في المئتين سنة الأخيرة وإليك التفصيل:
◀ الجزائر ضيعها العثمانيون للفرنسيين والذي أعادها من الفرنسيين هم العرب.
◀ تونس بعدها بسنين ضيعها العثمانيون للفرنسيين وحررها العرب من الفرنسيين.
◀ ليبيا ضيعها العثمانيون لصالح الإيطاليين وأرجعها العرب.
◀ جلبوا قائداً عسكرياً جائراً ماكراً شديد القسوة من ألبانيا محمد علي باشا ليحكم مصر فأنقلب عليهم وأخذ مصر والسودان ثم غزا الشام وكاد أن يسقط الخلافة لولا تدخل الإنكليز الذين أوقفوا الخلافة من السقوط مئة سنة كي لا تسقط بيد الروس ويسقطوها لصالحهم ولصالح فرنسا.
◀ سلطوا محمد علي باشا على الدولة السعودية الأولى، ووسط شبه الجزيرة العربية لم يتبع للدولة العثمانية؛ بل كانوا يتلاعبون بالقبائل بها؛ ومع ذلك سلطوا هذا الفاسق ضد القبائل.
◀️ جعلوا حكم لبنان بيد الدروز والنصارى، والعراق تركوا جنوبه يتشيع وكان همهم جمع الضرائب وحسبْ؟! ومع تدهور السلطة المركزية العثمانية في اسطنبول وسلطات ممثليها في الولايات العربية، تزايدت أدوار وفعالية البطاركة والحاخاميين، وأشاع التعصب الطائفي في أوساط النصارى العرب، ولقد توزعت الدول الأوروبية حماية الطوائف العربية، إذ اختصت فرنسا والنمسا بالكاثوليك، وروسيا بالأرثوذكس، وبريطانيا بالبروتستانت واليهود، فالنظام الطائفي في المشرق العربي تأسس وتوطد في ظل العثمانيين؟!
◀ بقي لهم العراق والشام، فلما ثار بعض العرب قال العثمانيون: ضيعنا العرب!! أو عرب خيانات!! وهل كانت تحت أيديكم أرض في الحرب العالمية الأولى سوى هذه الدول العراق والشام؟! لقد كُلّف العرب الخدمة العسكرية الإلزامية، أو دفع البدل العسكري، بحيث قضت أجيال من شبابهم زهرات عمرها، بل ودفعت حياتها في الحروب العثمانية خارج الوطن العربي أو في قمع الثورات العربية، فضلاً عن إلزامهم دفع الضرائب، ولقد تسببت الخدمة العسكرية والتعسف في فرض الضرائب وجبايتها بتراجع مراكز العرب الاقتصادية ومواقعهم الاجتماعية، بحيث غلب عليهم الفقر والجهل والتخلف عن العصر، وماذا تركت الدولة العثمانية بلداننا تخلف وأُمية وقلة دين نحن وقود للحروب والضريبة فقط!!
في ضوء القراءة الموضوعية لما شهدته البلاد العربية خلال العهد العثماني ليس من المغالاة في شيء القول بأن الحكم العثماني كان وبالاً على العرب عامة!! خلافاً لما يتصوره الحالمون بالترياق العثماني، ولكل من يشك أو يُشكك في صحة هذا القول عليه أن يعقد مقارنة بين ما كانت عليه حال كل من القاهرة ودمشق وحلب وبغداد والقدس من تفوق حضاري وتوافر الحقوق المدنية والدينية للعرب المسلمين ولغير المسلمين عندما بدأ العهد العثماني سنة 1517م، وبين ما كانت عليه أحوال كل من لندن وباريس وروما وڤيينا ومدريد يومذاك، ثم يقارن ما انتهت إليه العواصم الأوروبية الخمس ونظيراتها العربيات عند نهاية العهد العثماني في بلاد الشام والعراق سنة 1918م ليرى مقدار مرارة الحصاد الذي خلفه العثمانيون في البلاد العربية، نحن نمتلك الجعجعة أكثر من الطحن الحقيقي ونبكي على ماضٍ لا نعرف حقيقته!! لذا هؤلاء المزورين يحكومون علينا بتكراره ويهددون بالويل والثبور وعظائم الأمور كل من يحاول تذكيرهم!!