في دول العالم الثالث ؛ يلعب الحاكم دورا مركزيا في ادارة شؤون الدولة , الا ما شذ وندر , فلا قول الا قوله ولا رأي الا رأيه ؛ ولعل مقولة : (( اذا قال صدام : قال العراق )) تجسد هذه الظاهرة السياسية السلبية , وقيل ايضا : (( الوحدة بآمرها )) وهذه المقولات الصدامية البعثية لا زالت سارية المفعول الى الان ؛ اذ نرى الوزارة تعكس توجهات وزيرها الطائفية والقومية والحزبية والمناطقية ... ؛ وكذلك الدائرة بمديرها , والحكومة بحاكمها , والكتلة السياسية بزعيمها ... الخ .
وهذه الظاهرة تكشف لنا حقيقة علاقة الحاكم بالمحكوم والمسؤول بالمواطن ؛ فهي علاقة الى حد ما تشبه علاقة الغالب بالمغلوب , والسيد بالعبد , والامر بالمأمور ... الخ , وفي هذا الإطار، القضية المحورية التي يمكن أن نضع فيها كل تلك المقولات، على اختلافها ؛ هي : "التبعية العمياء " ؛ وهي تذكرنا بالمبدأ البعثي والطائفي الهجين الهدام : (( نفذ ولا تناقش )) والذي يشجع الحكام على الدكتاتورية والجور والظلم والاستبداد والقهر والتفرد بالقرار ... ؛ فهي ليست علاقة مبنية على الاحترام المتبادل بين المسؤول والمواطن باعتبار ان كليهما من ابناء الوطن الواحد ؛ وهما يعملان بروح الفريق الواحد , وكلا من موقعه وحسب وظيفته ؛ فلا تعالي في البين ولا استغلال ولا اخلال بالمسؤولية العامة كما هو الحال في بعض الدول المتحضرة .
الناس في مجتمعنا بطبيعتهم يميلون إلى تقليد الحكام , واتباع خطوات السلاطين , ومراقبة اقوالهم وافعالهم والعمل وفقا لما يروه منهم ؛ فأن كان الحاكم فاسدا او ظالما او متساهلا ومتسامحا مع الفاسدين والظالمين ؛ رأيت حاشيته والموظفين ؛ فاسدين وظالمين ومتساهلين مع قضايا الفساد والمظالم ولا يأبهون بها .
بل ان سلوكيات رجال الحكومة وتصرفات موظفي الدولة السلبية ؛ تنعكس سلبا على افكار المجتمع , بالإضافة الى تأثيرها السلبي على الرأي العام ومزاج الجماهير , مما يصير هذه الظاهرة السلبية ظاهرة طبيعية واعتيادية بنظرهم .
وهذه المقولة هي استنساخ وتكرار للمقولة التاريخية المعروفة : (( الناس على دين ملوكهم )) و التي تؤول تسويغا للاستبداد ومركزية السلطة وتهميش دور الشعوب وإرادتها , والجماهير وفاعليتها في صنع القرار الوطني ؛ وهي تمثّل حالة جبرية أو ظاهرة حتمية وفقا للثقافة المنكوسة ؛ اذ يراد منها استغفال الجماهير والضحك عليهم , وتعطيل طاقاتهم وشل اراداتهم ؛ ولعل اغلب مشاكل مجتمعنا بسبب هذه المقولات الباطلة والروايات التاريخية المنكوسة او التي فسرت بطريقة مغلوطة .
وقد ذكر أحد المؤلفين السينمائيين موقفا تعرض له في بداية مشواره المهني ؛ عندما اتفق مع أحد المخرجين لتصوير مسلسل من تأليفه , و قاموا بتصوير أول حلقة و عرضها على جهة الإنتاج , و كان رد المنتج بعد رؤية الحلقة : أن الإضاءة سيئة و الأداء باهت و النص غير مترابط و يوجد عيوب بالمونتاج , فقال المخرج : ( المهم أنه لم ينتقد الإخراج ) ... ؛غريب أمر هذا المخرج , كيف يظن أن أداءه الإخراجي ممتاز رغم أن جميع عناصر المسلسل ( التي يتحكم هو بها ) سيئة ؟!
يذكّرني هذا الموقف بما يدور في وزارات ودوائر ومؤسسات الدولة العراقية بل ومكاتب الاحزاب والجماعات الدينية ... ؛ حيث تجد العديد من أفراد امتنا العراقية المنقادين خلف الحكّام ينتقدون حاشية الحاكم والزعيم والمسؤول و يتهمونها بالفساد و أنهم سبب خراب البلد ودمار الوطن , و في نفس الوقت ينزّهون الحاكم والزعيم والمسؤول عن هذا الفساد ؛ متعللين بأنه صالح لكن من حوله هم الفاسدون !
يخطئ من يظن أنه يمكن فصل فساد الحاكم عن فساد الحاشية , فالحاكم قبل أن يصبح حاكما كان فردا في حاشية الحاكم الذي سبقه ؛ والحزب والكتلة التي كانت تصوّر له أن البلاد ستضيع بدونه و أن الله قد ساقه في هذا التوقيت لإنقاذها من الخراب ؛ و هم يعلمون أنهم كاذبون لأنهم هم من صنعوا هذا الخراب حتى يسيطروا على الشعب من خلال إيهامه طوال الوقت أنه تحت التهديد , و عند رحيل الحاكم السابق ؛ يتم تصعيد هذا الفرد ليحل محله , فهو إذا على دراية تامة بكذب و فساد الحاشية والحزب والكتلة , فكيف يدّعي البعض أنه لا يعرف شيئا عن فساد الحاشية والكتلة ( التي كان فردا منها ) ؟!
و نرى بعض الناس يحاولون تبرئة ساحة الحاكم والزعيم من هذا الفساد بدعوى أن الحاشية والكتلة قوية ؛ و أنه لا يستطيع القضاء عليها , و هم لا يدرون أنهم بقولهم هذا يهينون الحاكم والزعيم ؛ حيث يظهرونه بمظهر الشخص الضعيف الذي لا يقوى على إزالة الفساد , كما أنهم يناقضون أنفسهم : فكيف يكون الحاكم الشجاع المقاوم الواقف في وجه أعداء العراق والاسلام والمذهب والطائفة والقومية و الأمة العربية ... ( على حد زعمهم ) غير قادر على إزالة الفساد ؟!
إن الخطأ الذي دائما ما يقع فيه الثوار في أي زمان و مكان هو الفصل بين فساد الحاكم و فساد حاشيته فنراهم يثورون على الحاكم ثم يتركون الحكم لأحد أفراد حاشيته , و بعد ذلك يتعجّبون : لقد رحل الحاكم فلماذا لم يرحل الفساد ؟! ؛ وكيف يرحل الفساد والظلم ودوائر الدولة مليئة بالبعثيين والطائفيين والانفصاليين والخونة والمنكوسين ؛ بل ان مساحتهم في الحكومة اكبر من تواجد ابناء الشهداء والسجناء وضحايا النظام البائد ؟! (1)
ولعل سلوك الامام علي مع ولاة الامر السابقين ومنهم معاوية ؛ من الادلة الدامغة على ضرورة معرفة الحاكم بنوع الحاشية التي تحيط به , وتطهير جهازه الاداري من الفاسدين والظالمين ؛ اذ كان باستطاعة الامام علي تجنب الحرب ؛ بمجرد ابقاء ولاة الامر في مناصبهم وعدم التعرض لامتيازاتهم السابقة , الا انه لم يفعل ذلك ؛ لعلمه بحقيقة هؤلاء , ولم يداهن على حساب الحق والعدل والمساواة بين المسلمين والمواطنين كافة .
..........................................................................
- 1- فلماذا لم يرحل الفساد ! .. الحاكم والحاشية / عمرو يسري / بتصرف .