قد يبدو العنوان مستفزًا، لكن معرفة مُلابسات هذه الجملة، وكيف أنه كان جوابًا عن حالِ واقعٍ، قد يخفف شيئًا من الاحتقان على الجملة الآنفة .

قبل البدء استحضر معي أنّي هنا لا أصف بالعموم على كل ما في المجتمع، وإنما على ظاهره البارز.

في مجالس الضيافة وأمكنة اللقيا وتطبيقات التواصل، تدور الأحاديث حول مستجدات الساحة، وتصبح تلك الأماكن، حلقات حوارية ونقاشية، تكون في أحيان كثيرة حادة، وتبلغ الأصوات مبلغها من الزعاق والصراخ، وتثور هائجة الانتصار، خصوصًا إن لامست تلك النقاشات، بشرة المواضيع الحساسة، وأقصد المواضيع الإجتماعية التي لا تقبل عند كثير من الناس المساس بألوانها، فهي عندهم إما أبيض أو أسود، ومن هنا يختلط الأمر الشرعي بالعادة المجتمعية، لتتحول إلى وجهة نظر قبائلية وعرفية متلبّسة بخمار الشريعة والدين، معرضة عن ما في المسألة من رأي آخر معتبر عند الفقهاء .

في لحظة شرود بعد معارك نقاشية رأيتها واستمعت لها، جال بي الخيال ليصور لنفسي رحلة سنمائية تسبح مع الواقع الإجتماعي، وقلت بعهدها الحمد الذي لم يخلقني أنثى في مجتمع تلاحقها الأعين الخائفة والمتوجسة من ضيعها عند أول عتبة لخروجها من باب البيت، متناسية تمامًا دور التربية وزرع القيم ما تفعله ولو بقي المرء وحيدًا فريدًا بين وحوش البشر، وظروف الحياة القاسية .

الحمد لله أن افتككت من نظرات التوجس، والتربية القلقة القائمة على الخوف الزائد، وإلا لكنت شعرت بأني لست أهلاً للثقة، ولعشت عيشة الجبان المرتاب الذي لا يستطيع رفع صوته بالحق، إذ كيف يعيش الإنسان وسط مجمتع يرى انحرافه على شفا جرف، بغير مراعاة للضرورة الحياتية، والمهمات النهضوية. وتربية الخوف الزائد كتربية الثقة الزائدة؛ كلاها تنتج نتائج سلبية، تضر ولا تنفع، إما أن تنتج التمرد بغير حدود، أو التقوقع خجلًا والبكاء ضعفًا؛ فيسود الظلم، ويصبحن أصحاب الحق غريبات بخرس ألسنتهن، وبضعف قلوبهن، ولو فارسّن الحياة، لعلمن كيف يؤخذ الأمر غلابًا، والمحاكم تشهد بقضايا الولاية، والعضل، والتوكيل، وأكل حقوق اليتامى والأرامل، واللعب بورث الزوجة وغيرها من القضايا المبنية أساسًا على الظلم .

وعند مخالفة شيء من حكم الأعراف المجتمعية المقدّسة، يتعاظم الذنب، ويصبح العرض حلالاً لأن تلوكه الألسنة، خصوصًا إن وافق العرف قولًا راجحًا عند علماء الشريعة، فيتذرع بالقول الفقهي على قداسة عرفه ليصبح أشد تعظيمًا، ويكرر المقولة المستفزة " تستاهل، فهي من جرّت بالكلام على نفسها ".

وعلى هذا رأينا من يحكم على من تكشف وجهها بالضائعة، المنفلتة أخلاقيًا، وهو لا ينفك أبدًا عن ملاحقة الأعراض في الأسواق، أو لا تخلو يده في ليالي آخر الأسبوع من كأس الفودكا أو لا يزال يجرجر ثوبه إلى ما تحت الكعبين أو غير ذلك مما هو أعظم ذنبا عند الله، وكل هذه الأفعال في الشريعة أشد حرمة وذنبًا ممن كشفت وجهها عند من يرى عدم جواز الكشف، وهنا تعيش المرأة التباين التناقضي الفضيع في مجتمع يثرّب على شيء أشد من تثريبه على الأشياء التي هي أشد حرمة وأكثر إفسادًا !

والحمد لله أن خُلقت رجلًا أستطيع إكمال دراستي في أي مجال كان دون أن يعارضني أو يخوفني أحد من المستقبل الموحش الذي سأعيشه عقب وظيفتي، والحمد لله أني لم ألحق بالفترة الزمنية التي لا ترى للمرأة سوى البيت لها وظيفة، وأنّ إكمال الجامعة يفتح عليها أبواب الشر !

كثيرة تلك الصور التي تبيّن التوجس المخيف من التعامل مع المرأة، حتى وإن كانت تبيع شيئًا من ملابس النساء للنساء، وكأن المراد منها أن تعيش معزولة تمامًا، تخرج من غير أن تُرى وترجع من غير أن تُرى، وكأن هذا الانعزال هو الشيء الوحيد الذي يخفف من وطأة الافتتان !

نعم لسنا نريد للمرأة أن تختلط إختلاطًا كاملًا بالرجال، ولا أن تبقى معزولة عنهم، وإلا كيف تقوم النهضة البلدان بلا مشاركة الجنسين لوظائفهم بحدود المحافظة، والتنظيم الإداري الصارم .

لا أريد أن تبقى المرأة بجانب الرجل في عملها لا، لكن على الأقل ألا يتعكر صفاء النية نحو عملها، ولا يتلوث اللسان بالحديث عن عرضها، فإن لوحِظ الخطأ يتبادر بالإنكار، وقل لي بعدها إن كان المجتمع بأسره ينكر الأخطاء كيف سيكون حالنا ؟

حتمًا سيقارب حال مجتمع المدينة في عصر الصحابة، تذهب المرأة وتجيء للصلاة والأعمال اليومية باحتشام وبغير أي نظرة متوجسة .

ما أحب قوله وأنا أعيش في خيالي هذا، أنّ المنع لا يجدي نفعًا، ولا يقلل من الشر بقدر ما يجعله يتسلل إلى القدور الغالية بالكبت فينفس عنها بالممنوع المرغوب، فعند أول نَفَس من الحرية، تنطلق بكيد من الشيطان إلى مرابع الفساد والشر، ولو زرعت في النفوس، القيم الفاضلة مع سقيها بالبدائل الصحية لأنبتت أدواحًا تتنفس منه .

عشت هذا الخيال القصير ليس تطفلًا مني بأن أحشر نفسي بقضية نسوية، ولكن لأني أخ لخمسة أخوات أردت أن أشعر بإحساسهن عندما يواجهن بيئة مجتمعية كهذه، والإنسان يتألم لبني جنسه. ولأني سمعت من أحدهم يقول: لو دخلت ابنتي المجال الصحي لقتلتها ؟قلت: الحمد لله الذي خلقني رجلًا .

مخرج:

حتى يصبح مجتمعنا راقيًا بالتعامل مع الأنثى، ينبغي أن يؤهل بالنقد وبزرع المفاهيم والقيم، وتطبق الأحكام الشرعية، وتؤسس الأنظمة الرادعة، ويسري العدل على الجميع؛ عندئذ هاتوا بالمطالب كلها ولا تتوجسوا .