هناك حدث من الماضي ينتظرك ، يختبئ على هيئة كلمات على صفحة كتاب قديم ، وحدها الصدفة ستأخذك إليه ، بينما أنت تقلب الصفحات يترقب هو الإفراج عنه ، كسجين حنطه الزمن فبقي شاهداً على حياة سابقة لشخص لم يعد يشبهك ، لقد كنت هناك بجسد آخر وروح أخرى ، فما الذي تفعله الكلمات بنا ؟ .. إن سطوتها أقوى من سطوة الصورة ، فحين تسجل حدثاً بكلمات موجزة فأنت تترك للمستقبل باب التخمين والخيال على مصراعيه ، بينما الصورة أمامك بكل أبعادها لن تحتاج سوى للنظر والتأمل ، كما أن الكلمات تُكتب بروح كاتبها وإحساسه في لحظة زمنية خلّدها بقلمه .
كتبتْ على ظهر كتاب قديم لمصطفى محمود حتى لا تنسى ، فلم ينسَ الكتاب ما نسته هي ، واحتفظ به خمسة عشر سنة !
في يوم ما سجلتُ بكلمات قوية وجعي لحظة ضعف ، كلما قرأت تلك الكلمات أشعر بالهشاشة ، مازال الوجع يئن بداخلها برغم نسيانه ، نحن ننسى ما حدث لكن الكلمات تجيد نحته بداخلنا إلى الأبد ، هذه هي وظيفتها ، تبقينا قيد الإستجواب والمحاكمة كلما فتحت تلك الصفحات ، هل نتوقف عن الكتابة ؟ .. بالعكس ، لنكتب المزيد حتى لا ننسى تفاصيل حياتنا ، تفاصيل الوجع والخوف والفرح والحيرة والأمل .
لا تمزق ما كتبته في يومياتك بالأمس مهما بدا لك محبطاً وموجعاً ، اتركه للأيام ولقارئ هو أنت ستنضجه التجارب وسيرى تلك الكلمات تُسطر سيرة إنسان عاش كل المشاعر بإنسانية تامة .
كان يكتب كلما شعر بإنفعال وجداني ، كتب صفحات كثيرة وهو غاضب من الحياة ومنهم ومن القدر ، بدا في دفتر يومياته ساخطاً ومتألماً وحزيناً ، لكنه في الواقع كان هادئاً متفائلاً ممتناً ، لقد كانت الكتابة تغسل انفعالاته بإنتظام .
كانت نصوصه تقطر عذوبة ، مشاعره باذخة الجمال والرقة ، بدا عاشقاً يتلوّى في حرقة الشوق ونهم اللقاء ، حساساً بدرجة مفرطة لتفاصيل الحب والوله ، أما في الواقع فقد كان جليداً ، صلفاً في أوقات كثيرة ، لا يجيد التعبير ، كتوماً لا مبالياً ، متحفزاً وغاضباً أغلب الوقت ، لقد استنفذت الكتابة مؤنة الحب واللطافة في قلبه حتى أصبح يعيشها باكتفاءٍ على الورق .