هاشم الرفاعي
11 ديسمبر 2016
ترتكز المملكة العربية السعودية على عدة ركائز أساسية وداعمة لها في الوجدان العربي والإسلامي من المشرق إلى المغرب، وأهم ركيزة أنها حاضنة للديار المقدسة مكة والمدينة، وأيضاً هي ملتقى أساسي للمسلمين من بقاع الأرض كافة للحج والعمرة، فضلاً عن أن الدستور وقوانين الدولة تشير إلى الهوية الإسلامية. هذا المرتكز ذو البعد الديني هو ركيزة استراتيجية للحكومة السعودية، وطالما تم بناء استراتيجيات ومواقف سياسية كثيرة عليها منذ عهد الملك عبدالعزيز. وربما كان عهد الملك فيصل أكثر من جعل هذا البعد يتجلى بوضوح في مواقفه الاستراتيجية لوقف المد الناصري الشعبي في الجزيرة العربية، حيث بنيت مواقف كثيرة ذات بعد استراتيجي أن السعودية هي "نداء الإسلام"، وداعمة وحاضنة لمؤسسة "التعاون الإسلامي"، وكذلك "الندوة العالمية للشباب الإسلامي"، وغيرها من المشروعات ذات البعد الذي يحمل هوية عربية وإسلامية، وليس الأمر قصراً على الملك فيصل، بل حتى الملك فهد لُقّب بأنه خادم الحرمين الشريفين، وأصبح هذا اللقب رسمياً لكل من أتى بعده.
تراجع الحضور السعودي عربياً وإسلامياً، في السنوات القليلة الماضية، على الرغم من وجود بعض المشروعات، ولكن هناك صعود لقوى عربية وخليجية أخذت زمام المبادرة، وخصوصاً بعد الربيع العربي، حيث لم يكن حضور السعودية في الأحداث ذا ثقل إيجابي، وخصوصاً في مصر التي تمثل ثقلاً عربياً، حيث انحازت للسلطة القديمة التي هي خارج المشهد ضد الحضور الشعبي الجديد. لم تتعاط السعودية بشكل استراتيجي مع الصعود الجديد والتغيرات السياسية، بل تعاملت بكل برود مع الحكومة الديمقراطية الأولى، على الرغم من حرص حكومة الرئيس محمد مرسي على التمثيل والالتزام بالموقف العربي والإسلامي في وجه التمدّد الإيراني (الصفوي) الذي هو هاجس هوياتي للعرب بشكل عام، وللحكومة السعودية بشكل خاص، ومواجهته موقف أيديولوجي صلب للإخوان المسلمين. لكن، للأسف، أسقطت تحالفات العسكر مع القوى الدولية هذه النبتة التي لو كانت حاضرة في الوقت الراهن في المشهد العربي، لكانت خير نصير لحكومات الخليج في مواقفها العربية والدولية، ولوفرت على حكومات الخليج ملايين الدولارات التي أنفقتها على الحكومة الانقلابية في مصر، والتي انقلبت أيضاً على المصالح السعودية والعربية والإسلامية، في أكثر من موقف، وتظهر هذه المواقف، في العلن والسر، أنها تسعى إلى مصالحها، وهي مصالح العسكر الأحادية الجانب، وليست المصالح المشتركة بين الدول والشعوب العربية فيما بينها.
يجد من يتأمل خريطة المشهد في المشرق العربي المنطقة ملتهبة في العراق وسورية واليمن وعلى صفيح ساخن في مصر. ما الذي يمكن أن تفعله السعودية في الفترة المقبلة لتصحيح المسار الاستراتيجي لها حامية للعرب والسنة من المشروع الصفوي الإيراني الذي يسابق الزمن في احتلاله العواصم العربية، وقريباً الإسلامية في آسيا وأفريقيا؟ هناك المصالحة مع المكون السنّي عربياً، جماعات وأفراداً، وفق منطق استراتيجي، أي طرح السؤال الاستراتيجي: ما هي الفائدة التي جنتها السعودية في وقوفها ضد "الإخوان المسلمين" في مصر وحزب التجمع اليمني للإصلاح في اليمن؟ لا شيء، بل على العكس، الخاسر الأكبر من هذا العداء هي الحكومات الخليجية، وفي مقدمتها السعودية خصوصاً، والحكومات العربية بشكل عام، وهو عداء لا يمكن فهمه استراتيجياً أنه في صالح الحكومة السعودية تحديداً. ربما تكون لدولة الإمارات رؤية مختلفة بناء على مصالحها الاقتصادية الإمبريالية في شمال إفريقيا واليمن، يجعلها تعادي الحركات "الوطنية" في بلدانها، كجماعة الإخوان التي لن تقبل بمثل هذا البعد الأوحد لصالح طرف على حساب طرف، وهي مصالح اقتصادية في المقام الأول، وتتستر تحت رداء سياسي.
بناء جسور التواصل والتسهيلات للشعوب العربية والإسلامية للتعاون المشترك اقتصادياً وثقافياً جزء من حسابات الانتماءات التي لم تُجد السعودية لعبها في السنوات الماضية، ما هي المصلحة في رفع أسعار التأشيرات للحج والعمرة والزيارة؟ ربما من الناحية الاقتصادية هناك فرق، لكنه ليس كبيراً. عندما يشعر العربي والمسلم أن تكلفة ذهابه إلى الديار المقدسة مكلفة للغاية، فإنه هنا يبني تصوراته وحكمه عن هذه الدولة التي تحتضن هذه الديار. في وقتٍ تُفتح فيه الحدود ما بين العراق وإيران على بكرة أبيها، ويختلط الحابل بالنابل للدمج الثقافي الديني لصالح التمدّد الإيراني، نرى أن السعودية تسير في عكس هذا الاتجاه. هناك فرص تاريخية من المتاح والممكن أن تجنيها المملكة في نشر خط دفاع عربي وإسلامي، خلال مواسم الحج والعمرة، وذلك بالبرامج الثقافية المرحبة بالعرب والمسلمين على حد سواء، وتتم صناعة هذه البرامج، فهي ليست بروتوكولات تقليدية.
ومن المشاريع التي تدعم هذه الرؤية فتح أبواب التعليم والتبادل المعرفي والتجاري والسياحي للعرب والمسلمين، بل واستقطابهم في وحدة ومركز عربي إسلامي. كانت الجامعة الإسلامية، وما زالت، تستقطب الطلبة من كل دول العالم الإسلامي للدراسة فيها. ما الذي يمنع أن تخصص الجامعات السعودية نسبةً من المقاعد الدراسية للطلبة العرب والمسلمين في كل الجامعات، من دون استثناء، وذلك لأغراض استراتيجية يستفيد منها الطرفان، وأيضاً لتأسيس التنوع والتعددية العربية والإسلامية داخل السعودية وخارجها؟
في مقابل كل هذه المشروعات، والرؤية التي تدعو إلى أن تكون السعودية حاضنةً وخط دفاع عن العرب والإسلام السني، هناك عدة إصلاحات داخل البيت السعودي، لا بد من الأخذ بها إن أرادت أن تكون رمزاً وخط دفاع عن العرب والإسلام السّني، أولها إصلاح الخطاب الديني والفكر السلفي، حيث يعتبر الخطاب السلفي المعاصر معيقاً في التواصل العربي الإسلامي أكثر مما هو إضافة، حتى أن هناك محاولات عربية إسلامية لسحب البساط من تحت المدرسة السلفية، وتنحيتها من المشهد، وإبدالها بتحالفات أكثر مرونة للعرب والمسلمين وللشعوب العربية.
عندما أراد الملك فيصل وقف التمدد الناصري، استدعى رموز "الإخوان المسلمين" لصناعة خطاب وفكر إسلامي يصل إلى العربي من المشرق إلى المغرب، ولم يعتمد على الخطاب السلفي، لأنه خطابٌ لا يجيد التعامل مع الاختلافات والفروقات الثقافية العربية. لن أقول هنا إن تلك الحقبة كانت مميزة، أو يجب الاحتذاء بها، بل أشير لها نموذجاً من المتاح صناعة خطاب إسلامي عصري متنوع على غرارها، يقبل بالمسلمين، من دون النظر إليهم بعقلية ونظرة الوصاية. إصلاح هذه المنظومة فعل استراتيجي، لأن المسلمين والعرب لا ينظرون إلى السعودية إلا من خلال منظور عربي وإسلامي، وهذا هو الرابط الأساسي في العلاقة والنظرة العربية والإسلامية للسعودية، أنها حاضنة العرب والمسلمين وخط دفاعها الأساسي. وأيضاً إصلاح سياسي أساسي يتناسب مع المرحلة الزمنية. وللمطالبات في هذه المجال تاريخ طويل داخل السعودية، حيث الإصلاحات السياسية ضمان داخلي ومواكبة للزمن، وأيضاً تنعكس صورة الإصلاحات السياسية عربياً وتحمل مؤشراً إيجابياً على وعي الدولة السعودية بالأزمة التي تعصف بالمشرق العربي. العرب اليوم في أمس الحاجة لنموذجٍ ناجح، يحمل ويحمي الهوية العربية والإسلامية، و تكون دولة تضمن العدالة وتحمي الحريات، ودولة تنموية، يقلّ فيها الفقر ويستقر فيها الاقتصاد، ويحارب فيها الفساد المالي والإداري.
كل مقومات النجاح لإنجاز هذا المشروع تمتلكه السعودية، ولديها القدرة على إحداث فرق إستراتيجي بأن تكون حامي العرب والسنة، وخط الدفاع الأساسي ضد التمدّد الإيراني في المنطقة العربية.
المصدر : العربي الجديد
https://www.alaraby.co.uk/opinion/2016/12/10/الدور-السعودي-المنتظر-1