ترجمة: محمد سليمان الرشودي

إنه لأكثر أمر نخشاه أن يحدث لنا. نأخذ الطريق الطويلة لتجنبه. ورغم ذلك، هو لابد واقع، الزواج من الشخص الخطأ.

      يعود هذا، في جزء منه، إلى المجموعة الهائلة من العقبات التي تعترض الطريق حينما نحاول التقرب من الآخرين. يبدو ظاهرنا سويًّا فقط لهؤلاء الذين لم يعرفونا بعد حق المعرفة. في مجتمع أكثر حكمة من مجتمعنا، وأكثر وعيًا بالذات منا، يصبح السؤال الاعتيادي على طاولة العشاء مع المحبوب هو: "ما ماهيّة جنونك؟"

      لربما نحن نتمتع بميول كامن إلى الامتعاض حينما يختلف أحدهم في الرأي معنا، أو قد لا نستطيع الاسترخاء إلا حال التفت كل منا إلى عمله؛ ولربما نحن نراوغ بالحميمية بعد المعاشرة، أو الاكتفاء بالصمت في الرد على الإهانة. الكمال ليس لأحد. الإشكال يكمن في أننا نادرًا ما نتحرى تعقيداتنا قبل الزواج. حالما تهددنا علاقاتنا الظرفية بإظهار عيوبنا، فإننا نلقي باللوم على شركاء حياتنا، وننهي يومنا بذلك. أما الأصدقاء، فبذلهم الجهد لتثقيفنا لا يعنيهم كثيرًا. وبالتالي، فإن أحد امتيازات كوننا نعتمد على ذواتنا هو الانطباع الصادق بأننا، في الواقع، أناس يسْهُلُ العيش معهم إلى حد بعيد. 

      شركاء حياتنا ليسوا بأكثر وعيًا بذواتهم، فمن الطبيعي أن نؤذيهم في خضمّ محاولاتنا لفهمهم. إننا نزور عائلاتهم، ونمعن النظر في صورهم، ونقابل زملاء دراستهم الجامعية. يساهم كل ما سبق إلى تغذية الشعور بأننا قمنا بما يتوجب علينا. بيْد أننا لم نقم بواجبنا بعد. يحتل الزواج مكانة المقامرة المتعلقة بالأمل، والكرم، واللطف اللامحدود، والذي يقوم به فردان لا يعيان ذواتهما بعد، فضلاً عن أن يعيا ذات الآخر، يُلزمان نفسيهما على مستقبل لا يمكنهما تصوره، بل قد حرصا على تجنب البحث والاستقصاء.

      نجد في جملة التاريخ المسجّل بأن الناس تتزوج لشتى الأسباب المنطقية: كأن يكون للفتاة حصة في قطعة أرض ملاصقة لأرض الرجل، أو أن لعائلتها تجارةً مزدهرة، أو لأن والدها كان قاضيًا مرموقًا في البلدة، أو للحفاظ على قصر في مكان ما، أو لأن والدا الزوجين يتشاركان في تأويل واحد لكتاب مقدس. فتنبع الوحدة من زواج عقلاني كهذا، ومعها الخيانة، وسوء التعامل، وجفاء القلب، ومن خلال الأبواب، ينفذ صراخهما سريعًا إلى غُرف الأطفال. لم يكن الزواج العقلاني، في نهاية المطاف، معقولًا البتّة؛ بل غلب عليه طابع النفعية، وضيق الأفق، والزهّو، والانتهازية. ولهذا السبب أصبح بديله -الزواج الخاضع للمشاعر- معفيًّا، إلى حد كبير، عن الحاجة إلى شرح ذاته.

      يتمحور الزواج بالشعور حول فردين يهيمان ببعضهما بواسطة غريزتهما العارمتين، ويعلمان في قرارة نفسيهما أن ما يفعلانه هو الصواب. فعلًا، يمكن أن نشعر طرديًا بمزيدٍ من الأمن كلما بدا الزواج أكثر طيشًا (فلربما لم تمض إلا مدة قصيرة منذ التقيا؛ أو لعل أحدهما بلا وظيفة؛ أو ربما بالكاد تخطى كلاهما مرحلة المراهقة). يقوم الطيش مقام الموازنة في كفتي الميزان لكل جنحات العقل، الشرارة التي أشعلت نيران البؤس، والتي طغى عليها الفكر النفعي. ما الهالة حول الغريزة الآن إلا ردة فعل المصدوم ضد قرون عديدة من عقل لاعقلاني.

       نعتقد بأننا نسعى للسعادة في عش الزوجية، بيْد أن الأمر ليس بهذا اليسر. نحن في الواقع نسعى إلى الألفة، ولعل هذا بدوره يعقّد أية خطط قد تدور في أخلادنا عن السعادة. فما نتطلع إليه في علاقتنا الحميمة في سن الرشد هو إنعاش ذات الشعور الذي ألفناه جيدًا في طفولتنا. غالبًا ما يختلط على أكثرنا الحب الذي سنرتشف ريحانه مبكرًا مع ديناميكيات أخرى هدّامة بدرجة أكبر: كالشعور بالرغبة لمد يد العون نحو امرئٍ خارجٍ عن السيطرة، أو الشعور بالحرمان من حنان الأبوين أو الخوف من غضبهما، أو الشعور بعدم الأمان الكافي للإفصاح عن أمانينا. هل هو من المنطق بمكان، إذًا، أننا، نحن من بلغنا من الكِبَرِ مبلغنا، نجد أنفسنا رافضين الزواج من مرشحين محددين، ليس لأي ذنب إلا أنهم اختيار صائب جدًا لنا -فهم تامّو الاتزان، والنضج، والتفهّم، وجديرون بالثقة-، بقليلٍ من التأمل، نجد أن صوابًا كهذا يُشعر قلوبنا بالغربة. فنحن نتزوج الشخص الخطأ لأننا لا نربط بين كوننا محبوبين وشعورنا بالسعادة.

      إن اقترافنا للأخطاء نابع من شعورنا المخنوق بالوحدة. ليس بوسع أحد أن يكون بمزاجه الأمثل لكي يختار له خليلًا حينما يضيق ذرعًا بالعزوبية. يجدر بنا التصالح التام مع فكرة مضيّ العديد من السنين في وحدة خانقة إذا ما أردنا الانتقائية باعتدال؛ وإلا فإننا نغامر هجرنا للعزوبية، ثم بغضها، أكثر من حبنا للحبيب الذي قاسمنا القدر.

      إن غاية ما نصبو إليه في الزواج هو استمرار جريان هذا النهر المليح من المشاعر. نتصور الزواج مادًا لنا يد العون، ليحفظ، كما تحفظ قنينة الخمر النبيذ، شعور المتعة الذي داعب أفئدتنا يوم خطرت لنا فكرة الخطبة بادئ الأمر، لعلنا تصورنا أنفسنا في جزر البندقية، على زورق يجول حول بحيرة ما، والشمس رامية ببريقها على مدى البحر وهي تميل إلى الغروب، حيث تبادلنا أطراف الحديث عن جانب من أرواحنا لم يسبق لأحد إدراكه من قبل، ولربما تابعنا حديثنا لاحقًا على طاولة العشاء في أحد الأزقّة الهادئة. لقد تزوجنا للحفاظ على تدفق هذه الأحاسيس، بيْد أنه فاتنا التمعّن في الاتصال الهزيل بينها وبين ومؤسسة الزواج.

      للزواج في الواقع نزعة حتمية تقربنا من بعضنا البعض، بطريقة جدُّ مختلفة وذو معدل أكثر إدارية، وهو ما يبدو جليًّا في عوائل الضواحي، حيث ثلّة من الأطفال الصاخبين، من قتلوا ذاك الشغف الذي أتى بهم إلى الوجود. إن العامل المشترك الوحيد هو الزوج، والذي قد يكون العامل الخطأ للحفاظ على الشغف.

      قد يسّري عنا بعض ما بنا علمنا بأن زواجنا من الشخص الخطأ ليست مسألةً ذات أهمية.

      حال عزمنا على الهجر، فيجدر بنا هجر أسس الفكرة الرومانسية القائلة بوجود "الشريك المثالي" الذي يلبّي كل رغباتنا ويطفئ نيران صبوتنا، وهي الفكرة التي بنى الغرب عليها إدراكه للزواج في آخر 250 سنة.

      نحن في حاجة إلى استبدال الرؤية الرومانسية بإدراك تراجيدي، لا يخلو من الكوميديا في مرحلة ما، وهو أننا سنُحبط، وسيُثار حنقنا، وسنُؤذى، وسنغتاظ ونُحبط من كل إنسان على هذه البسيطة. كما أننا سنقابلهم بالمثل، وبلا أي تعمد للأذية. ليس هنالك حدٌّ لأحاسيسنا بالنقص والخواء. لكننا نقرّ بأن ما سبق ليس بغريب علينا، ولا يجدر به أن يكون أساسًا يُبنى القرار بالطلاق عليه. ما اختيار الزوج، والتعهد له بالوفاء، إلا مسألة انتقاء لتشكيلة من المعاناة التي تغلب فيها احتمالية أن نضحي بأنفسنا من أجلها.

      تقدم فلسفة التشاؤم حلًّا لكثير من الكدر والمنغصات حول الزواج. قد يبدو هذا غريبًا لوهلة، لكن التشاؤم يخفف عنا الضغط المتخيل والمفرط الذي فرضته الثقافة الرومانسية على الزواج. لا يجدر بفشل أحد الزوجين في انتشال الآخر من المرارة والغمّ أن يُستخدم ضدّ الأول، ولا أن يؤخذ كإشارة على أن هذه الزيجة تستحق الفشل أو حتى التحسين.

      إن الفرد الذي يشاركنا في الذائقة في كل شيء، وهو غير موجود على كل حال، ليس بأكثر الأفراد ملائمة لنا. بل هو الفرد الذي يفاوض اختلاف الأذواق بحنكة، وهو ذات الشخص الذي يجيد المجادلة. بدلًا من اللهث خلف سراب الكمال التام، يجدر بنا البحث عمن لديهم حس سخيّ ومتسامح مع الاختلافات؛ فهذه بحق هي العلامة الفارقة على زواجك من شخصٍ يمكن وصمه بأنه "ليس بالخطأ الفادح". ما التوافق إلا إكليل الحب، ولا يصح بأي حال أن يكون شرطًا مسبقًا له.

      الرومانسية فلسفة صعبة، ولم تكن إلا عائقًا لنا. لقد جعلت الكثير مما نمر به في الزواج يبدو استثناءً وإجحافًا. فننتهي إلى الوحدة، ونعتقد أن زواجنا، مع عيوبه، غير "طبيعي". يجدر بنا أن نمرّن أنفسنا على التكيّف مع "الخطأ"، وأن نسعى دومًا إلى تبنّي موقفٍ متسامح، وهزلي، وعطوف، وبأشكال متعددة، على أنفسنا وأزواجنا.