يعيش الانسان تقلبات عديدة يستغرب منها حتى اقرب الناس اليه، وما هي هذه التقلبات الا بحث عن الذات، فيصبح سعيداً ويمسي غاضباً، يسخط على الوجود ثم يمدحه بعد قليل، يتذبذب بين هؤلاء وهؤلاء، ليس حباً فيهم بل بحثاً عن نفسه. وبتتابع امواج الاحداث يبدأ هذا الكائن الناطق بفهم نفسه، فتستقر افكاره على شيء محدد، ولو لفترة قصيرة من الزمن قبل ان تعود عواصفه لتتلاعب بمركبه، وليس هذا الا لان الانسان من يوم ولادته الى يوم وفاته يكون كالبحار، يبحث عن مستقر لافكاره.
ليس ثمة طريقة محددة لفهم الذات ولا يمكن وصفها لك في سطر او في كتاب بالف صفحة، انه طريق خاص بك انت وحدك، عليك ان تجده وتبحث عنه، ولا يمكن لاحد ان يدلك عليه. انه ليس كالاسم، يهدى اليك فتتعايش معه وترضى به وما ذاك الرضى الا لانك تظن انك ذاك الاسم بحروفه المتعددة، ولكن لا يمكن لثلاث او اربع حروف ان تصف ذاتك. الطريق الى فهم الذات صعب وطويل، مليئ بالاختيارات والابواب المغلقة، وبكل انواع الاستقطاب والاسربة المكذوبة، ولكن البداية واحدة لكل باحث عن نفسه، وهي ان الله هدانا النجدين، ام الخير واما الشر.
ولكن المشاكل تبدأ فور فهمك لهذين الاختيارين، فما هو الخير وما الطريق اليه، وما هو الشر وما الوسيلة للابتعاد عنه؟ من يحدد الخير ويصفه؟ ومن يمنع الشر ويجليه لك؟ وهنا لا يمكن فهم الخير والشر بدون فهم الانسان ان به قوة لا يمكن مقاومتها، وهي الشهوة، فالانسان بطبيعته يكره القيود ويرغب في طمسها ولربما احب وجودها احياناً لكي يكسرها، وما اكل آدم للشجرة الا دليل على وجود الغريزة في كل واحد منا، وانها تلك الرغبة الغير مبررة التي تستحوذنا لفعل اشياء غير منطقية حتى ولو طلب منك حرفياً ان لا تفعلها، ولكن نفعلها اما لاننا نسينا انها محرمة او لاننا لم نستطع ان نتحكم في انفسنا. وبهذا يكون هناك بين الخير والشر رغبة ونازع قوي، وصلاح البشر يقاس بقدرتهم على التحكم بهذه الرغبة.
وعند فهم الانسان لضعفه امام رغباته يدرك تماماً ان الخير والشر ما هما الا قيد لكبح رغباته الحيوانية ليكون قادراً على التفكير بشكل روحاني بعيداً ان الجسد ورغباته الا متناهية من نكاحٍ واكلٍ وشربٍ ومالٍ وبنين. وليكون ناجحاً في لعبة الحياة الدنيا عليه اذاً التخلص من شهواته او التحكم بها لاقصى حد ممكن، وهنا يرتفع الموج بهذا الكائن البشري لصعوبة الطلب بل لاستحالته في معظم الاحيان.
يؤمن اليابانيون بان الظلام مهم اكثر من الضوء نفسه، فما قيمة الضوء اذا لم يكن هناك ظلام قاتم؟ فيجلسون لساعات طويلة في غرفٍ مظلمة امام ابواب واسعةٍ تسمح بمرور ضوء الشمس الى ظلامهم تدريجياً، ليشاهدوا صراع الظلام مع الضوء، فينتصر الضوء لساعات ثم يعود الظلام ليكن سيد الموقف لساعات اخرى، بعد ان يتبختر النهار على الليل في ساعة الغروب ثم يستسلم للظلام، ولا شيء اجمل في عين الياباني الفيلسوف اكثر من اختراق القمر لظلام الليل الدامس، فينظر اليه ويكتب الشعر فيه واصفاً نفسه كانه ذاك الضوء الذي يعلن حرباً خاسرة على ظلام لا ينتهي.
هذا المثال هو اقرب ما يمكن وصفه لفهم صراع الانسان مع نفسه، حيث يتعاقب عليه الخير والشر ولا يستقر على حالٍ الا لبعض الوقت، ولهذا يحتاج الانسان ان يجد طريقةً للتاقلمِ مع هاتين الحالتين، فلا نصر على الشر بدون فهمٍ جيدٍ له، ولا دوام للخير بدون ادراكه حق الادراك. ولهذا ارسل الله الى الانسان الحائر الرسل والكتب السماوية ليعطية مواصفات الانتصار في هذا الصراع. فحدد الله لنا الخير واحله، وحرم علينا الشر ونهى عنه، فاصبح الطريق لفهم الذات منسجماً مع الطريق الى الله، اذ انك لن تفهم نفسك الا اذا احببت ربك وفهمت ما يريد منك انت شخصياً.
إذا اصبحت علاقة العبد مع ربه علاقة تواصل ومحبة يصبح الانسان في حالة استقرار دائم مع نفسه، لانه ادرك تماماً بعد طول عناء انه لم يشد رحاله ولم يركب البحر الا بحثاً عن مولآه عز وجل، فيطيعه حق الاطاعة ويقف عند اوامره ونواهيه، لان المحب لمن احب مطيع ومستسلم وراضخ له، ثم مع هذه الطاعة يرتفع الانسان بنفسه من عالم الجسد المسحور بالشهوات الى عالمٍ من السكينة الروحية.