جلس وحيداً كعادته في نفس المقهى الذي يرتاده منذ خمسة عشر عاماً .. لا يعلم ما المميز فيه و لكنه يشعر فقط انه يشبهه لحد كبير .. فلا يأتيه الا من ضاقت به السبل و لم يجد غيره يوفر له طلبه بسعر مناسب أو من ألقت به رياح الأقدار اليه مرة و لن يكررها ثانية ً اذا ما رأى شقوق جدرانه ومقاعده المتهالكة ....
يرى نفسه في كل تفاصيل هذا المكان و لكنه دائما ما اعتقد انه هناك أختلاف واضح بينهما فلا بد و قد كان لهذا المكان عصر ذهبي يرتاده فيه أناس كثيرون و يستمتعون بالمكوث فيه و رؤيته في أبهى حال ولكنهم تخلوا عنه أو تخلى هو عنهم و قرر ألا يتجمل اليهم مجدداً و اّثر الوحدة على الأغراب , على عكس صاحبنا . فلم يمر بهذا العصر الذهبي ابداً فلم تبهت ألوانه شيئاً فشيئاً كهذا المقهى بل هو مؤمن بشدة أنه وٌلد هكذا ! وحيداً لا ينتمي لأي شئ ..
اللهم الا فترة طفولته التي أقل ما يقول عنها انها كانت " ذهبية " و لكنها انقضت سريعاً كحلم جميل ليجد نفسه في أحدى دور رعاية الأطفال مع أشباه أطفال فقدوا كل ما يصلهم بكلمة " طفولة " .. حتى ملامحهم .. ماذا ؟ .. تجاعيد ؟ .. لا , انها فقط اصابات كأثر جانبي لأحدى الشجارات على وجبة الطعام الوحيدة في يومهم ..... تذكر تلك الشجارات و هو يتحسس جرح قديم في جبهته و لكنه لم يكن بسبب الطعام , فلقد كان هادئاً لا يقرب الا ما يقدم اليه فظل نحيلاً جداً مما أغرى به الصبيان لضربه بلا سبب ..
فظل هذا الجرح ليذكره دائماً و أبداُ ب " مروان " ذاك الصبي الذي يجب ألا يعصي له أمراً .. الغريب انه لا يشعر بالحقد على كل تلك الأحداث فقط يتذكرها كأحداث "فيلم " و هو مشاهد صامت لا أكثر .. تخلى عن كل المشاعر منذ زمن فلم يعد يبالي بأي شئ ..
و لكنها مشاعره ل " رانيا " تأبى أن تتركه ابداً فقد استقرت بداخله و أحاطت نفسها بكل وجع ألّم به فحمت نفسها من الضياع في غياهب ذاكرته .. لم يفعل أي شئ ليحظى بقربها .. قام بدور المشاهد الصامت على أكمل وجه .. و ترك الاخرون يرسمون مستقبلها مع شاب اّخر لا تختلف ظروفه عنه كثيراً و لكنه كان جريئاً بالدرجة المطلوبة ليتقدم و يطلب الزواج منها ...
" مشوفتلناش موضوع الدوا الي على حساب الحكومة ده يا تكتور ؟ " أعاده للواقع سؤال " سيد القهوجي " ليذكره ايضاً ب " نباطشية " الليل التي يضطر لتحملها دائماً عوضاً عن " مروان " .....