السعادة مطلب كل البشر في هذه الأرض، المسلم واليهودي والنصراني والمجوسي والهندوسي والملحد، كلهم لو سألتهم ماذا تريدون؟ قالوا: أن نعيش سعداء!
الاختلاف في تفسير السعادة هو مايصنع الفرق بين الناس، المسلم الحقيقي يعتقد أن سعادته في رضا ربه، فيتنازل عن بعض ملذاته العاجلة طمعا في الثواب الآجل، بينما يستعجل الكافر طيباته في الحياة الدنيا ويظن أن المؤمن (يحب النكد)، الفلاح المجد يعلم أن سعادته في المحصول الوفير لأرضه، بينما الكسول يريد السعادة العاجلة في النوم والتسكع، الطالب المجتهد يرى سعادته في تفوقه فيبذل السبب وينظم وقته ويتخلى عن بعض ملذاته، بينما زميله يقضي الوقت في النوم وتصفح مواقع التواصل طلبا للإشباع الفوري.
من سُنن الحياة أن معالي الأمور صعبة، وأن سفاسفها سهلة، وأن النزولَ لايحتاج جهدا بينما يحتاج الصعودُ ذلك، وأن الإنسان إن لم يختر طريق التقدم الصعب فإنه سيسير لا محالة على درب التأخر السهل، لايوجد حل وسط بينهما، لذلك يمتلئ قاع الحياة بالناس ويضج، بينما يخف السائرون وتهدأ الأصوات كلما ارتقى القلة سعيا للقمة.
هذه الأمور بدهية، لكنها للأسف شبه غائبة، ففي عصر السرعة والمشتتات اليوم، والحياة المادية التي ترسخ السلوك الاستهلاكي والإخلاد إلى الأرض، فيصبح الهوى معبودا، واللذة الآنية هدفٌ يسعى له الجميع، لافرق بين مؤمنهم وكافرهم كثيرا، فالمسلم يقضي يومه بين القهوة والثرثرة ووسائل التواصل والتلفاز، ويمنّي نفسه بنزهات نهاية الأسبوع، وأحدث المطاعم، والسفر إلى بلد جديد كل عام، لأن هذه هي صورة الحياة السعيدة التي تقدمها له الأفلام والمسلسلات ومواقع التواصل.
أما التخطيط للحياة، والنهوض بالنفس وتزكيتها، وطلب العلم الذي يرتقي بالنفس والعقل والروح، ومجاهدة النفس على التخلي عن العادات السيئة والتحلي بالعادات الحميدة، والانتباه للأبناء والصبر على تربيتهم، والقراءة والرياضة والتأمل والمُحاسبة وتذكر الموت والاستعداد له، وتأمل حال المجتمع والتفطّن لمساره، وتفقد النفس من كل هذا، فكل هذه أمور تسبب لغالبية الناس صداعا لاقدرة لهم على تحمّله، فيهربون للفلسفة القاتلة (طنّش تعش) والتي يؤكد الدكتور عبدالرحمن الهاشمي أخصائي العلاج النفسي أن أغلب مُراجعيه هم من يتبناها ويعمل بها.
حيث يقول الدكتور أن من أهم مسببات الأمراض النفسية والتعاسة والفشل (والتي تتحول لمرض عضوي في كثير من الأحيان) يقول أن من أهم مسبباتها: التجاهل (والجهل) المَرَضي للواقع ومشكلاته، فعندما يختار الإنسان دسّ رأسه في التراب كالنعامة، وادعاء أن الأمور على مايُرام، واختيار الطريق السهل واللذة الحاضرة، فإن ذلك يؤدي لتفاقم المشكلات والصعوبات إلى أن تصل إلى حد لايمكن تجاهلها معه، ويكون قد فات الأوان على الحل غالبا، فتكون قاصمة الظهر، إن الاعتراف بالمشكلة مع العجز أو التكاسل عن حلها أهون بكثير من تجاهلها وادعاء عدم وجودها.
ومن الأمثلة في واقع حياة البشر حاليا:
١-شخص يختار الجهل لأن التعلم متعب، فيعيش في كنف الجهل مستريحا ظاهريا، ويعاني من وطأته في أمور دينه ودنياه، وفشله وقلة الفرص المتاحة أمامه، وحاجته المتواصلة للناس في أبسط الأمور.
٢-أم يعاني ابنها من مشكلة في بصره، فتختار الطريق الأسهل وتتعامى عن المشكلة مدعية أن (ولدي مافيه إلا العافية، الوسوسة مالها داعي) وتتجاهل العلامات الواضحة لتعبه، ثم لاتستيقظ إلا على حتمية إجراء زراعة للعين.
٣-والدين يعاني ابنهما من مرض التوحد، وتظهر عليه علاماته، فيختاران تجاهل ذلك تماما وادعاء أن (الولد مافيه إلا العافية) حتى تتفاقم حالته ويُكتشف في وقت متأخر جدا.
٤-أم يقضي أبناءها وقتا طويلا جدا من يومهم مكبين على أجهزة الجوال واللاب توب والايباد والايبود..الخ، فتضيع أوقاتهم سدى، لاتُنمّى مواهبهم ولاعقولهم، ولايجلسون مع أهلهم، ولا يتحدثون معهم ولايستمعون إليهم، فتختار الطريق السهل وهو تجاهل المشكلة، ومادامت دراستهم جيدة فلابأس، ولاداعي للوسوسة ومايفعلونه يفعله معظم أفراد جيلهم فلمَ القلق؟
٥- معلم يُدرّس طلابه بطريقة آلية، ويسطح اختباراته جدا لتناسب سطحية دراستهم، ويكون هدفه أن ينجحوا جميعا وينتقلوا للسنة التي تليها بسرعة، ولايهمه تعلموا حقا أم جهِلوا، فالكل يفعل هذا، وهو شيء سهل، فلِمَ الصداع والتعب؟ هل سيُصلح الكون؟ المهم أن يحصلوا على شهادتهم ويحصل هو على راتبه وكفى.
٦-إنسان يُدمِن أكل المطاعم أو التدخين، ومادام بصحة جيدة فهو يتجاهل المشكلة ويكره من (يتفلسف) عليه بأضرارها، ياأخي دعنا نعيش وأرِحنا من نصائحك.
٧-طالب دراسات عليا، يلجأ لمراكز خدمة الطالب فتقوم بكل شيء تقريبا بدلا عنه، ويبقى أن يضيف اسمه الكريم لغلاف رسالته، ولمَ الصداع والتعب؟ أليس السهل ممتعا ومجديا؟
٨- زوجان غارقان في المشاكل، يختاران التجاهل التام لها، فلا إمساك بمعروف ولاتسريح بإحسان، ولاتوسيط لذي الحِجى من الأقارب، تجاهل تام وحياة تعيسة وادعاء سعادة وهمية كاذبة يتجملان بها أمام الناس.
٩-امرأة بيتها غارقٌ في الفوضى، ومتسخ ويحتاج ترتيبا ونظافة عميقة، لكنها تتجاهل ذلك وتكتفي بالترتيب والتنظيف السطحيين، لأن مجرد التفكير في التعمق يسبب لها صداعا، وتقنع نفسها بأن الحياة أقصر من أن نقضيها في أعمال المنزل.
١٠- مسلم يُضيّع جزءا كبيرا من يومه في وسائل التواصل، يراقب حياة هذا، ويتابع أحاديث ذاك، ويصفق لنجاح الثالث في حياته، بينما حياته هو تغط في سبات عميق، ويقنع نفسه بأنه يتابع من يستفيد منهم ويروّحون عنه.
١١- شخص يؤذي من حوله ببذاءة لسانه، وسوء خُلُقه، وقلة أدبه في التعامل، فيختار الجميع الطريق الأسهل وهو تجاهله ومجاملته وعدم مصارحته أو تأديبه، ويكتفون بالغضب المكبوت منه، وربما غيبته في كثير من الأحيان.
١٢- شخص يكره حضور المناسبات الاجتماعية، ويقصر فيها، ويقنع نفسه أنه في غنى عنها وأنها تفاهات لاطائل من ورائها، فتضمر علاقاته الاجتماعية شيئا فشيئا وهو يتجاهل المشكلة تماما.
١٣-شخصٌ يتنصل من علاقته بأرحامه، ويتخلى عن التواصل معهم لسنوات تعقبها سنوات، ويستمر في حياته متظاهرا بالسعادة وكأن شيئا لم يكن، ولم التفكير والتعمق والتعاسة؟
١٤-موظف أو موظفة مسرفان في إنفاقهما، غارقان في الماديات المتكلفة وشراء ما لايحتاجانه، وجيوبهما خاويةٌ آخر الشهر، ويتجاهلان المشكلة، فخسارة هذا الشهر تُعوّض في الشهر القادم، ولمَ التقتير على النفس؟ أليس الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده؟
ولك أن تضيف لهذه القائمة -أيها القارئ الكريم- بنودا أخرى، وحالات كثيرة لبشرٍ اختاروا دس رؤوسهم في التراب والعمل بقانون القصور الذاتي، واختيار الطريق السهل في هذه الحياة، والسعادة الآنية، وإطفاء زر الضمير المزعج بمجموعة جاهزة من المبررات، والعبارات الجاهزة المعلّبة، ولك أن تتبع كرة الثلج الآخذة في التضخم والتي توشك على ابتلاعهم.
الناس اليوم يريدون من يطمئنهم إلى أوضاعهم ممتازة، وأن حياتهم (سمن على عسل)، وأن الأمور (تمام) وأنهم رائعون ويُبلون بلاء حسنا، يريدون من يغمسهم أكثر في (السعادة المخدّرة) فالخَدَرُ لذيذ، والصحوة مؤلمة، وللوعي تبِعات قاسية، والشاعر يقول:
ذو العلم يشقى في النعيم بعقله*** وأخو الجهالة في الشقاوة ينعمُ
وللكلام بقية.