بالكاد لا يمر يوم دون ان نسمع أو نقرأ الكثير من المقالات و العبارات او نشاهد الفيديوهات التي تدعوا إلى التفاؤل المفرط ، ورؤية النصف الممتلئ من الكأس فقط ؛ فيما يخص التهديدات العسكرية المحتملة والتحولات السياسية المتوقعة والمؤامرات الدولية والاقليمية القائمة ؛ بالتزامن مع ظهور بعض القلاقل والفتن الداخلية المفتعلة .
ومما لا شك فيه ؛ ان رفع الروح المعنوية وبث الطمأنينة والهدوء بين الاوساط الاجتماعية , وتهدئة الشارع العراقي ودعم الحكومة الوطنية ... الخ ؛ شيء والتفاؤل الساذج والمبالغة بالتقديرات الذاتية شيء اخر ؛ اذ قد يقودنا التفاؤل المفرط إلى تقديرات خاطئة ، كالتراخي والغفلة وترك الحذر والحيطة ؛ وعدم الاستعداد لما هو طارئ .
بل وصل الامر بالبعض باتهام كل من يدعو الحكومة والحشد وقوى الاغلبية والامة العراقية الى اخذ الحذر والحيطة ويدعوهم للاستعداد والمواجهة , او اعلان حالة الطوارئ مثلا , والتهيؤ لكل ما هو متوقع ولو على المدى المتوسط او البعيد ؛ بالإرجاف او التخاذل او بث مشاعر القلق والخوف بين الاوساط الجماهيرية او خدمة الاعداء ...!! .
نعم قد يكون مصير التفاؤل الساذج والمبالغات ؛ مزيد من النتائج والمعطيات السلبية على الساحة العراقية , فعلى الرغم من التهديدات المتبادلة بين القوى الدولية وكذلك الفصائل والمليشيات التي تمسك الارض , وكثرة التصريحات الرسمية لهذا المسؤول او ذاك , وتداول الصحف الرصينة والفضائيات الدولية والمواقع الرسمية لما يجري على الارض من تحركات واستعدادات عسكرية وغيرها , وكثرة المناقشات والتحليلات السياسية والعسكرية حول هذه التحركات و( التموضعات والتمركزات ) ومجيء الامدادات العسكرية الامريكية الكبيرة , وعقد الاجتماعات بين مختلف الاطراف ... ؛ الى ما غير ذلك ؛ يصر البعض على وضع اصبعيه في اذنيه , والتفاؤل بشكل غير واقعي وغير منطقي ، مما يجعلهم يرون الامور على غير حقيقتها ؛ وقد يؤثر ذلك بشكل سلبي على تقديرهم للأمور أو بمعنى أدق يجعلهم يُفرطون في التفكير الإيجابي وينساقون خلف أمور يرونها بشكل خاطئ بسبب تفاؤلهم المبالغ فيه ! .
والعجيب في الامر, ان هؤلاء الكتاب قد يتقاطعون احيانا مع تقديرات القادة والرجال والساسة – من الذين يؤمنون بهم - بخصوص هذه الشؤون والاحداث الجارية .
وعليه لابد لهؤلاء الكتاب من مراجعة مقالاتهم وتمحيص اراءهم , والموازنة بين بث الروح المعنوية واشاعة الطمأنينة والهدوء في الاوساط الشعبية وبين الاستعدادات واخذ الحيطة والحذر وبث روح الحماس والكفاح والقتال في نفوس ابناء القوات المسلحة العراقية والشباب , فلا منافاة بينهما قطعا ... ؛ وان فكرة التفاؤل ليست وصفة جاهزة ممكن تنفيذها بسهولة على ارض الواقع وقطف ثمارها ... ؛ إنها مسألة توازن قوى متصارعة وتهديدات مختلفة واعداء متربصين بالعراق والعراقيين والعملية السياسية وامكانيات وطنية محدودة قياسا بما يمتلكه الغير ... ؛ فلابد لنا من العقلانية والواقعية في التفكير وتحليل المعطيات والأحداث... ؛ والخروج منها بخطة عمل محكمة ... ؛ وعليه يجب علينا التفريق بين التفاؤل المعقول والواقعي والسذاجة والبساطة في تناول الاحداث والامور المصيرية والخطيرة ... ؛ علما ان العمل بالحذر والحزم لا يجعلنا نخسر شيء سوى الاستعداد والاستنفار ... , واما لو عملنا بالتفاؤل المفرط والساذج وكان الامر على خلاف ما توقعنا ؛ عندها ستكون النتائج قاصمة للظهر وحينها لا ينفعنا تفاؤل المتفائلين .
وكلما اشاهد ما يجري على الساحة العراقية , و ما تخوض به الاغلبية العراقية , وما ينطق به البعض من مبالغات وادعاءات , وما يسطره يراع البعض الاخر من شعارات جوفاء وتصريحات كبيرة ؛ اتذكر ما حدث للقسطنطينية ؛ ففي الوقت الذي حاصر به السلطان العثماني محمد الثاني (محمد الفاتح) القسطنطينية (إسطنبول) والتي كانت في ذلك الوقت تُسمى بالإمبراطورية البيزنطية أو الإمبراطورية الرومانية الشرقية وصمدت هذه الإمبراطورية إحدى عشر قرناً في وجه أعدائها ووجه من يحاول السيطرة عليها... ؛ وقد كان البيزنطيون في وقت الحصار على مدينتهم وعاصمة إمبراطورتيهم منشغلون في الجدل الطوباوي والنقاشات الدينية , وتكفير بعضهم البعض ، بينما كان محمد الفاتح يحاول الهجوم على أسوار القسطنطينية ... ؛ في ذلك الوقت، كان الإمبراطور قسطنطين الحادي عشر يحاول تهدئة الأوضاع وتوحيد صفوفهم للتصدي لجيش محمد الفاتح ، لدرجة أنه كان يبكي وهو يطلب من الأطراف المتنازعة في جيشه التوقف عن نزاعاتهم ونقاشاتهم ؛ والتركيز على حماية إمبراطورتيهم... ؛ وقد حارب الإمبراطور نفسه بشجاعة لحماية إمبراطورتيه ... ؛ ولكنه قُتِل في النهاية لأن أبناء إمبراطورتيه كانوا منشغلين في نقاشات غير مجدية مثل : "هل الملائكة ذكور أم إناث"؟ و "من أتى قبل من... البيضة أم الدجاجة؟" ... ؛ والكثير من الأسئلة والنقاشات التي أشغلت جيش الإمبراطور عن أداء عمله وحماية وطنه... ؛ فأصبحت "القسطنطينية" في يد محمد الثاني "الفاتح" الذي افتتحها عام ١٤٥٣ ميلادياً، والتي تسمى في وقتنا الحالي "إسطنبول".