ليس بالضرورة أن الصمت دليل الموافقة والقبول أو أن ( السكوت علامة الرضا ) كما قالوا ، الصمت أكثر أدوات التعبير صدقاً فلا يتخذها إلا ثائر القلب ، يصمت لأنه عجز عن التغيير ، عجز عن الإقناع ، عجز عن الحوار والجدال والكلام ، فاتخذ ركن الصمت الآمن والشديد ، وأعتصم بكلماته في صدره ، وثار على ما حوله بعدم مجاراته والصدود عنه ، يصمت لأنه اختار الرحيل رغم حضوره الفيزيائي ، اختار التدثر بنرجسيته وقطع لغة التواصل مع العالم ،  : أنا لم أعد هنا ، لقد فرطتم بي وآن لكم أن تمضوا بدوني .

قالت عيناك مالم تقله شفتاك .. ولأني أجيد السباحة في بحر قلبك أجدتُ قراءة عينيك ..

إن الصمت درب من دروب المقاومة ، حين أحس بالعجز عن فهم ما يدور حوله ، اتسعت غربته ، وأصبح التأمل منهجه الذي صفت به نفسه ، وعوضاً عن التصريح فضل استخدام الرموز ، فجاء الصمت كرمزية أشد عمقاً وأقوى تأثيراً ، لقد استغرق عمراً كي ينتبه إليه من هم حوله ، يوماً ما شاهد فراشة تحلق في فضاء النافذة ، تبسّم ، فسأله ابنه عن سر تبسمه ، فلم يجبه ، بل أكمل الرقص مع جناحي الفراشة حتى غابت .

ربما أخطأتُ في التخمين .. لكني حاولت فك تلك الشفرة التي تشكلت بيننا .. ثم أدركت أن رموزها قد وضعناها معاً .. على مدى عمر من الزمن .. فلم تكفي محاولتي وحدي ..

هل سمعت يوماً عن الهدوء الذي يسبق العاصفة ! .. كان صمته فراغاً في جسد البيت ، استحث العاصفة على المبيت فيه تلك الليلة ، فاقتلعت جدران الذكريات النائمة ، وبعثرتها بجنون ، كنا نخاف أن تقتلع السقف فلا نجد سقفاً نأوي إليه ، لكنها عبرت ، ومضت تاركةً لنا آثار صمته في أكواب الشاي وفي منفضة سجائرة ، كان دخاناً كثيفاً يلف المدى إلى مالا نهاية ، وحين سألته ماهذا ؟ .. أجاب : بأن هذا صمته الذي استحث العاصفة على الحضور قد غادر الآن ، وربما أخذ معه أعز ما نملك .