من الطبيعي ان تحدث الصداقة بين الاقارب والجيران وزملاء العمل وكل من تربطك بهم روابط القربى النسبية والقومية والمعنوية والدينية ... الخ ؛ لذا نرى احيانا ان سلوكيات الاصدقاء متشابهة وافكارهم متقاربة .

فمن الواضح اننا نختار الاصدقاء الذين يشبهوننا في المرجعية، ويتخذون نفس مواقفنا , لكن الشيء الشاذ والامر الغريب ان يختار المرء صداقة الاعداء , وهذه الصداقة تشبه الى حد ما علاقة الحب من طرف واحد , وان كانت اشد ضررا منها بل لا تقارن بها ؛ اذ ان العدو عدو , وهو لا يرحم الشخص حتى وان اقام هذا الشخص  علاقة معه , ومد جسور المحبة والصداقة اليه  ؛ بخلاف الحب من طرف واحد ؛ فأن المقابل لا يضره كما يفعل العدو بعدوه ... ؛ ولعل أسوء العداوات هي العداوات الوراثية والتي يرثها المرء من اهله وبني قومه وبيئته ... ؛  فالعدو الوراثي :  تركة تُخلِّفُها للشخص  العائلة أو العشيرة أو الإثنية أو الطائفة أو الدين أو الأمة ... ؛ العدو بالوراثة يمكنه أن يكون عدواً بالدم أو عدواً بالهوية .

وقد حفل التراث العراقي والاسلامي والعربي بالمقولات التي تحذر من العدو , فها هو حكيم العراق الامام علي يحذر اتباعه ومحبيه من ائتمان العدو او الغفلة عنه ؛ اذ قال : (( من نام عن عدوه أنبهته المكايد ... ؛ من نام لم ينم عنه ... ؛ لا تأمن عدوا وإن شكر ... ؛ لا تستصغرن عدوا وإن ضعف ... ؛ جماع الغرور في الاستنامة إلى العدو ...)) ومن ابياته الشعري ايضا :

والق عدوك بالتحية لا تكن ** منه زمانك خائفا تترقب

واحذره يوما إن أتى لك باسما ** فالليث يبدو نابه إذ يغضب

إن الحقود وإن تقادم عهده ** فالحقد باق في الصدور مغيب

وانشد الشاعر القروي  قائلا  : 

لا يخدعنك من ضد مسايرة ** فالماء وهو حميم يطفئ النارا

وقد عد شاعرنا العراقي الكبير ابو الطيب المتنبي صداقة العدو في حالة الاضطرار من نكد الدنيا وشقائها ؛ اذ قال : 

ومن نكد الدنيا على الحر أن يرى ** عدوا له ما من صداقته بد

وقال أيضًا:

لا يخدعنك من عدو دمعه ** وارحم شبابك من عدو ترحم

وقال أبو الفتح البستي: 

لا يستخفن الفتى بعدوه **    أبدا وإن كان العدو ضئيلا

إن القذى يؤذي العيون قليله ** ولربما جرح البعوض الفيلا

 

وقال أيضًا:

عليك بإظهار التجلد للعدى **   ولا يظهرن منك الذبول فتحقرا

ألست ترى الريحان يشتم ناضرا ** ويطرح في الميضا إذا ما تغيرا

وليس العجب من جرأة الاعداء  على النيل من العدو المغاير ,  او تزوير الحقائق وتضليل الضحايا ، فتلك طبيعة الأعداء ولن تجد لها تبديلا ... ؛ ولكن العجب من الضحايا المستهدفين واعجابهم بالأعداء وتصديق ادعاءاتهم وترويج مقولاتهم  ... ؛ بل واتباعهم وموالاتهم وتهيئة الوسائل والادوات لهم بما  يعينهم على تحقيق مآربهم وتنفيذ مخططاتهم ، ولعل ما يحصل في الساحة العراقية من تواطئ اغبياء وحمقى و ( غمان وثولان ) الاغلبية العراقية الاصيلة مع الاعداء والدخلاء والغرباء وايتام وازلام  البعث و النظام البائد ؛ دليل دامغ على هذه الحالة الشاذة . 

فبعض الاغبياء والحمقى ومحدودي النظر يعتقدون ان ضعف الاعداء الاني او مجاملة الاعداء لهم او محاولة التقرب منهم ؛ كفيلة بحمايتهم منهم ودفع ضررهم وشرهم ؛ وهم في حقيقة الامر كالنار تحت الرماد او كالتنين النائم  الذي ما ان يستيقظ  حتى يلتهمهم . 

لعل أحدكم يتسائل لماذا تتناول هكذا موضوع و هو واضح كالشمس في رابعة النهار , وتوضيح الواضحات من اشكل المشكلات  كما يقولون  ؛ وما ربط هذا الحديث بصداقة السرحان مع الشاة ؟! 

فأقول  : نعم إن الحالة الطبيعية لبني البشر معاداة الاعداء ومنافرة الاضداد ؛ الا ان الحمقى والاغبياء لهم سلوك اخر مغاير للسيرة العقلانية للبشر  , وقد مر عليكم في مقالة ( صفات الاحمق ) ان من علامات الحمقى عدم التمييز بين الاعداء والاصدقاء ؛ واما بخصوص علاقة الذئب بالخروف وربط الموضوع بهذا الشاهد ؛ هو بيت شعري شعبي للشاعر الجنوبي والاديب العراقي الاصيل عريان السيد خلف والذي اردت ان استهل به مقالتي هذه ؛ الا انني فضلت تقديم هذه التوطئة .

وأكًول إشوالف السرحان للشــاة ××× إعله سـجٌه وكًاوداه الإيد بالإيـد

فالشاعر يستغرب من صداقة السرحان مع الشاة ؛ بل ويتعجب اكثر عندما يراهم يمشون معا يد بيد وعلى نفس الطريق ؛ من دون حذر من قبل الخروف المغدور سلفا ...!!

يروى أن راعيًا كانت له زوجة تعينه على رعي غنمه ؛ ماتت الزوجة ، ولم يكن له إلا ابنة صغيرة ، فاستأجر لها صبيًا يساعدها على رعي الغنم ، وغفل عنهما ، وكبرا معًا ، وفجأة رأى على ابنته علامات الحمل ، فاستل سيفه ليقتلها ، فاستوقفته قائلة :

يا أبت لا تقتلني بذنب أنت فاعله ... أنت الذي ألفت بين الشاة والذيب

الشاة تعلم بأن الذئب يأكلها ...    والذئب يعلم بما في الشاة من طيب

الكل يعلم بهذه الحقيقة الا  خروفنا الضحية – ( القشمر , الاثول ) - ؛ فهو لا يعلم ان السرحان يأكله ؛ فماذا ينتظر العاقل من علاقة الذئب بالشاة : هل ينتظر الزواج على سنة الله ورسوله , ام الصلاة معا جماعة , او العمل سوية ...؟!

النتيجة واضحة ولا تقبل الجدال ؛ لا شيء سوى الفتك بالشاة وسلخ جلدها بعد ذبحها من قبل الذئب ؛ الا ان الاغبياء والحمقى ليسوا من زمرة العقلاء او الاذكياء ... ؛ وصدق المثل الهندي القائل : ((  إذا رأيت الذئب يلحس نعجة، قل: هذا نذير شؤم )) . 

وبما ان الذئب يمتلك مهارات كثيرة ومنها تغيير جلده  وسرعة تحوله من حال الى اخر – لذلك قالوا : الذئب ذئب ولو في ثوب حمل -  , وذكاءه المفرط وعلاقاته الواسعة بالذئاب والسباع الاخرى , فالمعركة محسومة سلفا لصالح الذئب ؛ فالخراف لا حول ولا قوة ؛ بل الادهى ان الراعي احيانا يفتخر بالذئب ؛ وان دل هذا على شيء فإنما يدل على كونه لا يحب الخراف ومتواطئ مع الذئاب ضدهن  ؛ فالتسامح مع الذئب يعني ظلامة نحو الخروف – كما يقول المثل السويدي - ؛ لان هذا التسامح على حساب مصلحة وامن الخراف ... بل ان بعض الرعاة الاغبياء والخونة عهدوا  للذئاب برعاية الغنم والقطيع - وعندها انطبق المثل العراقي الجنوبي الشعبي على هذه الحالة الشاذة (ودع البزون شحمة ) -  ...!! ؛  و الراعي الخائن أسوء من الذئب على القطيع ؛  واما الراعي الامين يعمل جاهدا على اهلاك الذئاب لأنه يعلم علم اليقين ان (في موت الذئب عافية للغنم ) ؛ وقد يبكي الذئب امام الراعي الامين عندما يرى شدة بطشه وقوته وحزمه ؛ وقد شبه البير كامو المخادع بالذئب , قائلا : (( المخادع ذئب يبكي تحت أقدام الراعي  )) ويعتقد بعض الحمقى ان عزوف الذئب عن دخول حضيرة الخراف ؛ دليل استقامة وتوبة , ولا يعلم هؤلاء ( القشامر ) بحقيقة المثل  المنغولي : (( يبقى الذئب ذئبا ولو لم يأكل غنمك )) 

ولعل صفات الخراف التي ذكرناها انفا هي من تشجع الذئاب على البقاء والتكاثر وديمومة الفتك بالخراف ؛ وأكد الكاتب شكسبير هذه الحقيقة بقوله : ((الذئب ما كان ليكون ذئباً لو لم تكن الخرافُ خرافاً )) فلولا سذاجة الخراف وغباءها ما غدرت بها الذئاب ... ؛ وصدق شاعرنا الكبير احمد مطر عندما وصف حال الخراف الغبية قائلا : (( ...  دخل ذئب حظيرة الخراف فأكل نعجة بيضاء ففرحت الأغنام السوداء , ثم أكل نعجة سوداء فقالت البيضاء : ذئب  عادل , وما زال الذئب يمارس عدله فيهم حتى اليوم ... )) 

وبما ان الخراف تبقى خراف والذئاب لا تموت ؛ تستمر المعارك وتسقط الضحايا ؛ ولا سبيل الى تقليل اعداد الضحايا الا من خلال زيادة ادراك الخراف لخطورة الذئاب والعمل على صيانة انفسهن من خطر الذئاب والابتعاد قدر الامكان عن اماكن تواجد الذئاب ؛ الا ان الخراف الغبية قد تغتر احيانا بكثرة اعدادهن وقلة اعداد الذئاب والضباع ؛ فتسرح وتمرح في مرابع واراضي الذئاب والضباع ؛ ومن الطبيعي ان يلقي الذئب بالتحية على هذه المجاميع الكبيرة بل ويطلب من الخراف المجيء مع الذئاب للقيام بواجب الضيافة كما ينبغي ... ؛ وقد تقبل الخراف العرض السخي ومن دون اعتراض او وجل , وتذهب مع الذئاب في جنح الظلام ؛ وما ان يبزغ الفجر ؛ حتى ترى اشلاء الخراف واوصال الغنم تملئ الوديان والبراري والدماء تجري كالنهر المنهمر وتصبغ لون النهر بالأحمر القاني ... ؛ اذ قامت الذئاب والضباع بتقسيم هذه الاعداد الكبيرة للأغنام الى مجاميع صغيرة كي يسهل البطش بها والقضاء عليها سريعا ... ؛ وبلغني ان بعض الخراف الصغار توسلت بتلك الذئاب ؛ تطلب منها العفو والسماح , وتقسم عليها بحق الوعود والعهود التي اطلقتها الذئاب عندما رأت مجاميع الخراف الطيبة أول مرة ؛ الا ان الذئاب لم تكترث لتلك التوسلات والآهات والصرخات ... ؛ وردت قائلة : كيف تريد منا ان نرحمكم وقد اهملكم الراعي ...؟! .

عندها ندمت الخراف وبكت بدل الدموع دما ؛ ولات حين مندم .