هذه المقولة من الاهمية بمكان ؛ فهي تكشف لنا الفرق الجوهري بين التاريخ والذاكرة ؛ اذ قال الكاتب والمؤرخ توني جدت ( Tony Judt ) : (( على عكس الذاكرة ، التي تؤكد وتعزز نفسها ، يساهم التاريخ في خيبة الأمل في العالم )) 

نعم التاريخ قد يكون عبارة عن ذاكرة مصطنعة وهمية لا تمت للحقيقة بصلة ؛ لاسيما اذ كتبت صفحاته بأقلام المنتصرين والطغاة الظالمين والمرتزقة المأجورين والكتبة الدجالين , فطالما عمل هؤلاء على  تزويد المجتمع بذاكرة جماعية مصطنعة ؛ وذلك لعلم هؤلاء بالحقيقة التالية : ( بما ان الحاضر يعتمد في اغلب او بعض – حسب طبيعة المجتمعات -  معطياته وتحركاته وارهاصاته على الماضي ؛ ويرتبط به ارتباطا وثيقا احيانا ك ارتباط العلة بالمعلول ؛ سعى هؤلاء الى صناعة الماضي او التلاعب به واعادة صياغته ؛ لأنه هو الاساس الذي يبنى عليه المستقبل ... )  ؛ وكيف يستطيع المرء تكوين رؤية تاريخية واضحة وهو يعلم علم اليقين بأن هنالك الكثير الكثير من المعلومات المغيبة – عن عمد - , ناهيك عن اختفاء سياقات وظروف المقولات التاريخية , بالإضافة الى بتر معالم الاحداث والوقائع وتضييع شفراتها ؛ فالرؤية الواضحة تكمن في البدائل التاريخية المفقودة . 

وبناء  على ما تقدم تعتبر الامة  او الجماعة او الفئة او القومية مريضة او في حكم الميتة والميؤوس من شفائها ؛ اذا لم تمتلك ذاكرة جمعية مكتوبة ومرئية وموثقة بمختلف الوسائل والادوات ، تحفظ رموزها وقيمها واحداثها ,  وتنجز منظومتها الاجتماعية المعبرة عنها  ... ؛ بل و تعيد صياغتها وبلورتها وفقا للمتغيرات والتحديات – ان اقتضت الظروف ذلك -  ولكن بما لا يتقاطع مع اصالة الامة وتراث الجماعة وهوية الوطن ... ؛ وعليه يجب على العراقي الاصيل حفظ التاريخ وديمومة الذاكرة ؛ لان هذا الامر يعد من  أكثر التحديات  الحضارية والثقافية خطراً على وجود الامة العراقية . 

نعم قد تخفى الحقائق وتغيب الوثائق وتدفن احداث التاريخ الا ان ذاكرة الشعوب والجماعات تستعر بنار المعاناة الشعبية  ولهيب الالام الجماهيرية  ؛ وان  بقى من شعلتها ضوء خافت . 

والويل كل الويل ؛ للجماعة التي لا تمتلك سوى ذاكرة رملية هشة ؛ يتسرب منها الحدث كالماء ، وماذا ينتظر المرء من الامة صاحبة الذاكرة المثقوبة التي لا تؤتمن على ما يرد إليها، تماماً كما هو الحال مع القربة المثقوبة التي لو امتلأت بزفير العالم كله لا تنتفخ ؟! ؛ غير تكرار الهزائم والنكبات وعودة الالام والفواجع والانتكاسات ... ؛  والذاكرة المثقوبة بخلاف الزهايمر فهو عضوي ولا حول للإنسان فيه ولا قوة ، لكنها عندما تثقب سياسياً وتاريخياً  وثقافيا فذلك أمر من صميم ثقافة لا تقبل التراكم والتجارب فيها مهما تعاقبت  ولا تقبل الجمع، لهذا فالعودة دائماً إلى أول السطر , والرجوع الى المربع الاول . 

لذا ترى بعض الجماعات والشعوب تدور في حلقة مفرغة ؛ كَمَا يَدُورُ الحِمَارُ في الرَّحَى , وقد عبرت الروايات الاسلامية عن هذه الحالة المرضية بالمقولة الشهيرة : (( أجهل الجهال من عثر بحجر مرتين )) ؛ ولعل الامام علي عانى من بعض هذه الجماعات فأطلق مقولته هذه ؛ لعلهم يعقلون ... ؛ فالبعض لا يكاد يخرج من مأزق حتى يدخل في اخر ؛ وما تكاد تنطفئ فتنة حتى تشتعل اخرى , وما ان تجف الدماء حتى تسفك غيرها ... وهكذا دواليك . 

وطالما كان  رهان أعداء العراق  على اختلاف الهويات  والقوميات والمواقع  والتوجهات على ما حاولوا إحداثه من ثقوب في ذاكرتنا الجمعية  بحيث أصبحت بالنسبة للبعض أشبه بالغربال ؛ ناهيك عن التزييف التاريخي المتعمد . 

وربما كان ما قاله الجنرال موشي ديان ذات يوم عن تكرار خطة الحرب بين عامي 1956 و1967 نموذجاً لهذا الرهان، وكان الجنرال ذو العين الواحدة والأشبه بالقرصان قد رأى ما لم يره أصحاب العيون الواسعة! لهذا كان ما كان ... ؛ اذ قال  :  (( إن العرب لا يقرأون، وإذا قرأوا لا يفهمون، وإذا فهموا لا يستوعبون، وإذا استوعبوا لا يطبقون )) . 

 لو قرأ العراقيون الاصلاء المعاصرون تاريخهم بمعزل عن مناهج الاختزال والتدجين وتهريب الوقائع ورؤى الخط المنكوس والتغييب وتسطيح الوعي ... ، لربما تلقحوا ضد اللدغ من كل الجحور التي باضت فيها الأفاعي قبل رحيلها ... ؛  فما من عراقي  لاذ ذات يوم بالأباعد ضد الأقارب إلا وندم، لكن بعد فوات الأوان.

ومن لم يقرأ حكايات واحداث و قصص و وقائع التاريخ العراقي ... ؛ سيبقى عارياً كسلحفاة سُلخت عنها صدفتها، تكفي قطرة ماء لاختراقها حتى النخاع ... ؛ والرهان على الذاكرة المثقوبة يعني تكرار اللدغ والسطو والغزو من كل الجهات . 

ومما سبق تعرف اهمية تدوين السرديات الشعبية وكتابة الهموم والآمال والتطلعات الجماهيرية , ورصد الحركات والثورات والانتفاضات الوطنية , وصدق الكاتب والمؤرخ فيجاي براشاد ؛ عندما قال : (( حيث لا يوجد تاريخ للنضال بعد الانتفاضة ، تموت الذاكرة الحية )) ومن خلال ما تقدم تعرف سبب جنون ازلام الفئة الهجينة والطغمة التكريتية والبعثية والصدامية عندما يستذكر احرار العراق بطولات العراقيين الاصلاء في احداث الانتفاضة العراقية الخالدة عام 1991 ... ؛ فالجيل  الذي يعيش بلا تاريخ ؛  هو جيل لا يفقد ذاكرة الأمة فحسب ، بل يفقد الإحساس بما يشبه أن يكون المرء داخل جلد الإنسان – مقولة سيمون شاما - . 

ولعل اولى خطوات الاعداء في تدمير البلاد ؛ و تصفية شعب ما ؛  هي محو ذاكرته ... ؛ وذلك من خلال اتلاف وتغييب وتدمير كتب وثقافة وتاريخ تلك الامة بل وتغيير اسماء المدن والقرى ؛ كما فعلت بعض الانظمة في الاراضي العراقية التي تم الاستيلاء عليها من خلال اتفاقيات باطلة ومواثيق دولية مشبوهة . 

واخيرا اصاب كبد الحقيقة من قال : آه لو كانت الذاكرة المثقوبة ترقع وترمم كي لا يشبه اليوم البارحة . (1)

..............................................................................

  • الذاكرة المثقوبة / خيري منصور / بتصرف .