ومن اورع ما جادت به قريحة الامام الشافعي في الحث على الهجرة والارتحال ؛ ابياته الشعرية التالية :

اِرحَل بِنَفسِكَ مِن أَرضٍ تُضامُ بِها ... وَلا تَكُن مِن فِراقِ الأَهلِ في حُرَقِ

فَالعَنبَرُ الخامُ رَوثٌ في مَواطِنِهِ ...  وَفي التَغَرُّبِ مَحمولٌ عَلى العُنُقِ

وَالكُحلُ نَوعٌ مِنَ الأَحجارِ تَنظُرُهُ ... في أَرضِهِ وَهوَ مُرميٌّ عَلى الطُرُقِ

لَمّا تَغَرَّبَ حازَ الفَضلَ أَجمَعَهُ ... فَصارَ يُحمَلُ بَينَ الجَفنِ وَالحَدَقِ

نعم قد يضغط الشوق على المرء ويؤلمه فراق مسقط رأسه , ومن المعلوم ان جاذبية مسقط الرأس لا تُقاوم ... ؛ ولكن قد يحوّل البؤس وتدهور البيئة والاضطهاد  وتدني المعيشة وانتهاك حقوق الانسان وهدر الكرامة ؛ الوطن  إلى جحيم لا يُطاق ... ؛  وحين تُهدد الحرب حياة الناس تهديداً مباشراً، يبقى الفرار الخيار الوحيد للبقاء على قيد الحياة ... ؛ مما يضطر المواطن الى الهجرة من الوطن .

والأسباب التي تدفع الناس إلى الهجرة متعددة ومعقّدة ؛ وقد ذكرنا بعضها انفا  ... ؛  ومن بين هذه الأسباب  ايضا : يمكن ذكر استحالة تأمين عيش كريم لعدم توفر فرص عمل أو عدم وجود خدمات عامة كالصحة والأمن والتعليم أو تعطلها التام ، أو الرغبة في الالتحاق بأفراد من العائلة  او الجماعة او الحزب ... الخ ؛ استقروا في الخارج ؛ او بسبب العنف الفظيع الذي ينجم عن النزاعات المسلحة... ؛  وقد تكون أسباب الهروب والهجرة من البلد  أقل حدة من سابقاتها : مثل تفشي الجريمة مثلاً أو القمع العنيف وغير المتناسب للتحركات الشعبية أو اضطهاد بعض المجموعات لأسباب سياسية أو إثنية او دينية ... ؛ وكلها أسباب تدفع الناس إلى السعي لبناء حياتهم في مكان آخر , والسعي للحصول على  التكريم والاعتراف به ما لا يجده في مسقط رأسه.

وحث كتاب القران الكريم اتباعه على الهجرة وتغيير الدار , ان كانت ظروف الانسان فاسدة وظالمة وقاسية ومنها الاية 100 من سورة النساء :  { وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً ۚ وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ ۗ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيماً } . 

ومما نسب للنبي محمد ؛ أن أبا فاطمة حدَّثه :  أنه قال : يا رسول الله ، حدِّثني بعمل أستقيم عليه وأعمله، فقال له النبي محمد : ((عليك بالهجرة، فإنه لا مثلَ لها)) - سنن النسائي، (7 / 145)، (4167) -  وقد فسر بعضهم الحديث بقوله : أي: "الزم التحوُّل من ديار الكفر إلى ديار الإيمان"... ؛ ولعله كان يقصد الهجرة من ديار العار والذل والجهل والتخلف والظلم ...  الى ديار الشرف والعز والعلم والتطور والعدل ... . 

وعليه لا ارى وجها لتعيير بعض العراقيين الاصلاء بهجرتهم من العراق  الى دول العالم المختلفة ابان حكم مجرمي الفئة الهجينة الدخلاء ؛ نعم قد يلحق المهاجر العراقي العار والخزي في حال تنصله عن هويته الوطنية وتبنيه فكر الخط المنكوس المعادي للعراق والامة العراقية ... ؛ فالفرار من الخطر يعد امرا طبيعيا وسلوكا بشريا متعارفا ؛ وحتى هؤلاء الذين كانوا يعيرون العراقيين المهاجرين ويعبرون عنهم ب ( عراقيو الخارج مقابل عراقيو الداخل ) عندما تعرض بعضهم للخطر هربوا وحدانا وزرافات الى دول الجوار ...!!  

وها هو الشاعر  الحريري يحث الناس على هجرة ديار الجوع والظمأ والضرر ... ؛ وعدم اليأس من فشل المحاولة الاولى ؛ قائلا : 

لا تقْعُدَنّ على ضُرٍّ ومسْـغَـبَةٍ ... لكيْ يُقالَ عزيزُ النّفسِ مُصطَبِرُ

وانظُرْ بعينِكَ هل أرضٌ مُعطّـلةٌ ...منَ النّباتِ كأرضٍ حفّها الشّجَـرُ

فعَدِّ عمّا تُـشـيرُ الأغْـبِـياءُ بـهِ ... فأيُّ فضْلٍ لعودٍ مـا لـهُ ثـمَـرُ

وارْحَلْ رِكابَكَ عن ربْعٍ ظمئتَ به ... إلى الجَنابِ الذي يَهمي بهِ المطَرُ

واستَنزِلِ الرّيَّ من دَرّ السّحابِ فإنْ ... بُلّتْ يَداكَ بهِ فليَهنِكَ الـظّـفَـرُ

وإنْ رُدِدتَ فما في الرّدّ مَنقَـصَةٌ ... عليكَ قد رُدّ موسى قبلُ والخَضِرُ

و قال المأمون العباسي العراقي : لا شيء ألذ من السفر في كفاية وعافية ، لأنك تحل كل يوم في محلة لم تحل فيها، وتعاشر قوما لم تعرفهم ... ؛ ومما قيل في ترك الإقامة بدار الهوان :

وإذا البلاد تغيّرت عن حالها ... فدع المقام وبادر التحويلا

ليس المقام عليك فرضا واجبا ... في بلدة تدع العزيز ذليلا

 

وقال الصفي الحلي :

تنقّل فلذّات الهوى في التنقّل ... ورد كلّ صاف لا تقف عند منهل 

ففي الأرض أحباب وفيها منازل ... فلا تبك من ذكرى حبيب ومنزل

ولا تستمع قول امرىء القيس إنّه ... مضلّ ومن ذا يهتدي بمضلّل

فالهجرة الضرورية هي مغادرة للوطن المنهك والمحتل والمدمر والمعذب والمبتلى ... ؛ بحثاً عن وطن آخر يطعمك خبز الحرية والكرامة والعزة ... ؛ وقد غادر كثير من الشعراء والكتاب والاحرار والشجعان والغيارى أوطانهم لا حباً في هذا، بل باحثين عن مكان يستطيعون فيه الكتابة والتفكير والعمل  بحرية ، بعيداً عن مقص الرقابة وبطش السلطة المباشر.

إن ما يحتاج إليه الإنسان هو وطنٌ يوطّنه ويحترمه كمواطن ، فماذا نقول في ضوء هذا عن البلدان العربية والافريقية ودول العالم الثالث  التي تزداد نسبة الهجرة منها على مر الأعوام؟ و لقد عبر الشجاع العراقي  مالك بن الريب المازني التميمي في صرخة شعرية مؤلمة عما يعتمل في صدور كثيرة معاصرة ، وكان شاعراً فارساً هجا  الطاغية الحجاج ومات في طريق السفر إلى خراسان  - نحو ٦٨٠ ميلادية -  بعد أن لدغه ثعبان ... ,  ويُرْوى أن الجن وضعت قصيدته اليائية مكتوبة تحت رأسه بعد موته – العراقيون يصنعون اساطير لرجالهم وشجعانهم احيانا - ؛ واليكم بعضا من ابياتها : 

تقول ابنتي لما رأت طول رحلتي          سفارك هذا تاركي لا أبا ليا

لعمري لئن غالت خراسان هامتي                   لقد كنت عن بابي خراسان نائيا

فإن أنج من بابي خراسان لا أعد                   إليها وإن منيتموني الأمانيا

فلله دري يوم أترك طائعا                   بنيَّ بأعلى الرقمتين، وماليا

ودرٌ الظباء السانحات عشية               يخبّرن أني هالك من ورائيا

ودر كبيريَّ الذين كلاهما                   عليَّ شفيق ناصح لو نهانيا

ودر الرجال الشاهدين تفتكي               بأمري ألا يقصروا من وثاقيا

ودر الهوى من حيث يدعو صحابه                 ودر لجاجاتي ودر اتنهائيا

تذكرت من يبكي علي فلم أجد             سوى السيف والرمح الرديني باكيا

ولم ير الشاعر العربي الشنفرى عيباً في اللجوء إلى قوم آخرين، أو في مصاحبة الذئاب والضباع وتفضيلهم على بني قومه، ويعبّر شعره في ضوء لحظتنا المعاصرة عن قرف الإنسان العربي المعاصر من السلطة وأدواتها وخدمها الذين شرّش فسادهم في البلاد وحولها إلى سجن. وصاغ الشنفرى هذه الأفكار في لغة شعرية جميلة وآسرة:

أقيموا بني أمي، صدورَ مَطِيكم            فإني، إلى قومٍ سِواكم لأميلُ!

فقد حمت الحاجاتُ، والليلُ مقمرٌ          وشُدت، لِطياتٍ، مطايا وأرحُلُ؛

وفي الأرض مَنْأيً للكريم عن الأذى                وفيها، لمن خاف القِلى، مُتعزَّلُ

لَعَمْرُكَ ما بالأرض ضيقٌ على امرئٍ                سَرَى راغباً أو راهباً، وهو يعقلُ

ولي، دونكم، أهلونَ: سِيْدٌ عَمَلَّسٌ                  وأرقطُ زُهلول وَعَرفاءُ جيألُ

وضاقت البلاد على الشاعر سويد بن أبي كاهل اليشكري، بل تحولت إلى سجن مصادر للحرية، بحيث ليس فيها متسع ولا يمكن الاستقرار فيها (1):

كيف باستقرار حرٍّ ساخطٍ ... ببلادٍ ليس فيها مُتّسع؟

وهذا ما شكا منه أبو تمام الذي قرر الرحيل عن بلاد تعقل اللسان وتقفل القلب:

وأصرف وجهي عن بلاد غدا بها ... لساني معقولاً وقلبي مقفلا

وهذا ما دفع المتنبي إلى السفر والمغامرة، هرباً من الذل والخنوع:

فاطلب العزّ في لظى، ودع الذلّ ... ولو كان في جنان الخلود

ما مر عليكم انفا قد يمثل وجهة نظر معظم الناس الا انني اختلف معكم حول وجهة النظر هذه ؛ فأني لا ابرح الوطن حتى يستعيد عافيته وعظمته وامجاده ؛ وقد عرضوا علي موضوع الهجرة والفرار من الاجهزة الصدامية القمعية الرهيبة وقتذاك والهروب الى ايران  الا انني رفضت الاقتراح جملة وتفصيلا ؛ وفضلت السجن على الهروب .

اذا هرب الاحرار وهاجر المفكرون وسافر المبدعون من العراق ؛ فمن يبقى في العراق ومن يخدم الامة العراقية ويتحمل عبء المسؤولية الوطنية  ؟!

ولساني حالي ما قال الشاعر : 

بلادي وأن هانت على عزيزة ... ولو أنني أعرى بها وأجوع

بلادي وإن جارت علي عزيزة ... وأهلي وإن ضنوا علي كرام

لعل وجهة نظري هذه يعتبرها البعض نوعا من الجنون او المثالية المفرطة ؛ ولكن لكل منا وجهة نظر , ولله في خلقه شؤون .

نعم قد لا يعرف  اهمية الوطن إلا من عرف  الام الغربة  و معاناة الهجرة ... ؛  فألم الفراق عن الوطن من أصعب الآلام ومن أشدّها ... ؛  فمن لا يبكي لفراق الوطن ؟ ومن لا يشتاق لأرض وطنه ؟ فلو لم يكن الوطن غالياً لهذه الدرجة لما سُمّي بـ"الوطن الأم"... ؛  فالوطن هو تماماً كالأم الحنون التي تحتضن أطفالها وتمنحهم الشعور بالأمان والسكينة... ,  ومهما سافر الإنسان ومهما دار من بلدانٍ حول العالم، فلن يجد أحنّ من حضن وطنه ولا أدفئ منه.(2) 

................................................................................................

  • 1-الخروج من ”ديار المذلة“ خواطر حول الشعر والهجرة / اسامة اسبر /  بتصرف . 
  • 2-لا يعرف الوطن إلا من عرف الغربة / هيا الاتاسي / بتصرف .