إن الاندفاع في إطلاق الأحكام علي الآخرين من خلال نظرتنا السطحية الفارغة من الأدلة يعد جريمة لا تغتفر، وذنب لا عذر له، إذ قد يبني عليها اتهامات لا حقيقة لها وظنون بعيدة كل البعد عن الواقع. فإنك قد تنشر رأيك في إنسان فيتلقاه منك آخرون ثم به يتعاملون معه بناء علي حكمك الذي حكمت أنت عليه به .

إن النظرة الأولي دائما ما تكون كاذبة إذ يملئها العاطفة والمشاعر فالإنسان اجتماعي بطبعه فلقد سمي إنسانا لأنه يحب الأنس بمن حوله، لذا فإنك إن قابلت أحدهم للمرة الأولي كان قلبك وعاطفتك تجاهه هي الأقرب وكان عقلك حينها غائباً في ذاك المشهد، فكم من أناس حكموا علي آخرين بتسرع وعدم روية وبعد أن اقتربوا منهم لم يجدوا أي أساس لهذه الأحكام وتبين لهم أنها لم تكن منهم إلا عدم فراسة ونظرة للأمر سطحية .

فليس من الحكمة أن تختلق انطباعات وهمية عن غيرك لمجرد نظرة أو كلمة أو موقف لا يعطيك البراهين الكافية للحكم عليه، فإذا كنت حتما ولا بد فاعلا فليس أمامك حينئذ إلا ثلاث خيارات الأول إما أن تسافر معه والثاني أن تتاجر معه والثالث أن تساكنه حينها ستنجلي لك أخلاقه الحقيقة غير المزيفة، وستدرك كيف يفكر وما هي معتقداته ومبادئه ؟ أما أن يكون اعتمادك علي النظرة الأولي أو اللقاء الأول في رأيك الذي تبنيه تجاه الآخرين ومن ثم تذهب به كل مذهب بل وتسعي لنشره علي الجميع فذاك اكبر إجحاف يمكن أن توقعه علي إنسان .

إن ديننا أمرنا ألا نصف البشر إلا إذا وضعناهم علي المحك وقلبنا أرائهم في كل أحوالهم، وذلك حتى ينكشف لك غطاء سلوكياتهم وصلب معدنهم؛ لأن تسرعك في النعت والوصف سيوقعك لا محالة في الخطأ المباشر سلبا وإيجابا؛ لأنك في هذه الحالة ستلحق مسميات بأناس هم منها براء وستتهمهم بتهم غير عادلة  وعلي النقيض أيضا ستمتدح آخرين بما لا يستحقونه وتعلي شأنهم بما لا يتناسب وأخلاقهم لذا فإن النظرة الأولي في الأحكام قرار غير صائب من الوجهين وكفة غير متوازنة من الجهتين .

والمتأمل يري أن محل الصراع يكمن في الهوى البشري، حيث يفتك بالتوجيه الفكري لصاحبه فيوقعه في سوء الظن إما حبا لنفسه أو كرها للآخر، إذ لو سألته علي أي شيء بنيت موقفك واتخذت رأيك لم يكن له جواب إلا أنه يخمن أو يعتقد أو يظن وتلك حجج واهية لا تثبت لذو العقل الواعي  الفطن .

وعليه فإن التسرع في نقد الناس دون التحري أو الاستعلام أو قد نهي عنه المسلمون منذ زمن

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ )

ولقد جاء في القرآن أنه لما جاء الهدهد إلي سيدنا سليمان وحدَّثه عن قومٍ يعبدون الشمس من دون الله، ماذا قال له سليمان الحكيم عليه أتم الصلاة والتسليم ؟


﴿ قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ﴾

إنه التحري والتأكد قبل إصدار القرارات والأحكام .

إلا أننا يجب أن ننوه أنه ليس كل البشر صنف واحد عند النظرة الأولي فنحن إزاء صنفان تجاهها، صنف يسرع بل قل إن استطعت يهرول في إرسال الدعاوي وقذف الناس بالباطل، وصنف يتخذ التريث والتأني والتحقق نهجاً له وأسلوباً في تشخيص النفوس .

وإذا كنا ننتقد من يتعامل بتلك النظرة؛ فإن المجتمع أيضا عليه مسئولية أخري إذا تركها كان مساهماً معه في خطأه، وهي عدم الاستماع إليه أو تصديق قراراته ما دام مصراً علي تلك القاعدة في تعاملاته مع الغير. فإن من يأتيك بوصف لإنسان أو خبر عنه أو موقف حدث له دون أن تسأله الدليل فإنك في هذه الحالة ستعد مشاركا معه في جريمته ومعينا له علي إثمه، فأخطر ما يمكن أن يحدث أن يلصق أحدهم التهم المرسلة والظنون المعلبة بإنسان هو منها برئ كالذئب من دم يوسف عليه السلام ، وأخطر منه أن يصدقه المجتمع دون أن يتبين أو يطالبه بالإثبات؛ لأنه حينئذ ستكون الشائعات هي التي تحرك أفراد تلك البيئة وتوجهه وليس أسوء علي أمة تريد الرقي من أن تقودها الشائعات وتسيرها بسيرتها .

فكم من امرأة طلقت بخبر كاذب؟ وكم من شركة انحلت بخبر كاذب؟ وكم من حرب قامت بخبر كاذب؟ وكم من مؤسسة دمرت بخبر كاذب ؟

ولو أردنا أن نرجع إلي جذور المشكلة فلعلنا نجدها في التنشئة السيئة لصاحب تلك الصفة الذميمة ، فربما ينشأ طفل في أسرة متسرعة في التعليلات وإلقاء الكلام علي عواهنه، فيكتسب صفة العجلة في الحكم دون ترو أو تثبت، لذا يجدر بالآباء مراعاة تصرفاتهم أمام أبناءهم حتى لا يغرسوا فيهم تلك الصفة وهم لا يشعرون وإدراك أن القدوة بالأفعال وليست بالأقوال.

ثم إن هذه الافتراءات التي يطلقها أصحاب النظرة الثاقبة كم يدعون لا تجعل حولهم أي صديق أو قريب؛ إذ لن يقبل أحد أن يكون في مرمي النيران بسوء الظن والحكم الواهي المبني علي الأوهام .

وإذا ذهبنا إلي الناحية النفسية لوجدنا أهل الاختصاص يطلعونا أن الشخصية المتسرعة في الحكم دون شيء من التروي تتصف بالاندفاع، وغالبا ما يقع صاحبها في حالة ندم وحرج شديد والندم أشد المشاعر إيلاما للنفس .

إطلاق الأحكام دون عقلنه أسبابها بنظرتها الأولية هو سوءة تكتب في صفحات أولئك الذين ليس لهم ذنب إلا أنهم قابلوك دون ترتيب أو ميعاد، فهل يعقل أن ترسم صورة صحيحة عن إنسان من لمحة عابرة لا تستغرق سوي ثواني معدودة ؟ وهل من الوعي أن تعطي انطباعا عن أحدهم بمدة قصيرة دون أن تتطلع علي خلفيته ودواخله الحقيقة .

ولقد أردت أن  أحقق ماهية تلك الصورة وعلي أي شيء قامت وبأي ريشه رسمت؛ فرأيت أن كثير من البشر يجدون الراحة في نقد الآخرين والمتعة حينما تظهر لهم عيوب الناس؛ لذا يحاول بعضهم إخراج العيوب إخراجاً من باطنها بل ويقومون بلصق التهم وإلحاق النقص لأناس لا جريرة لهم علي الإطلاق، ولكن السؤال هنا ما هو سر ومغزى تلك الراحة في النفوس ولماذا تسعد علي حساب نقص الغير وإظهار عيوبهم؟  والجواب يكمن في أن المرء لا يحب أن يري نقصه أو عيبه فيسعي إلي أن يبحث عن عيوب غيره حتى يشعر انه ليس هو فقط صاحب العيوب، ثم يحاول إقناع عقله أنه لو كان يملك عيباً واحداً فإن غيره يمتلك الكثير من العيوب.

 ومن هنا كان حب الإنسان في أن يعيب الناس وأن يطلق عليهم الأوصاف حتى بلغ ببعضهم ألا يتورع في الوصف ولو بالباطل والبهتان وألا يتأني في النعت ولو كانت بالنظرة الأولي .

بقلمي

 عمرعبدالله