(((((((((((((()))))))))))))))


في حقبة من ماضي حياتي البعيد أوجعني ضميري جلدًا ، وأكثر عليّ التأنيب وتقليب المواجع واللوم وحرمني من لذة النوم!، فكان يوبخني، ليل نهار، على أبسط الأخطاء ويقيم حولها مناحة كبيرة ومآتم وعويلًا !!، كان يوبخني ويلومني على ما فعلتُ وعلى ما لم افعل !!.. واحيانًا كان يتخلل توبيخه لي بعض السخرية والتهكم مني بل وشيء من التعيير الذي يشبه الاحتقار!!، وكنت - تحت وطأة تأنيب الضمير، ومن شدة الخجل المعجون بالوجل - انكمش في اعماق نفسي كدودة شعرت بالخطر وأتمنى لو لم اكن موجودًا !!، ومن شدة الشعور بالندم كنت أردد في حزن وبؤس: (يا ليتني كنتُ ترابًا !! يا ليتني كنتُ ترابًا !!).... فلقد اكثر علي ضميري يومها من تأنيبه ولومه لي وتعييره حتى نغّص عليّ معيشتي وبات صوته يبدو لي كأزيز النحل أو طنين الذباب، فضقتُ به ذرعًا وبدأت أشعر بأنه قد حوّل حياتي الى جحيم لا يطاق!! ، وبلغ السأم منه ومن نفسي درجة الكراهية ثم تطورت الكراهية لاحقًا إلى حقد شديد!!..  أجل !! ... هل تصدقون !!؟؟ 

لقد اصبح ضميري يومها، بصوته الذي يشبه نقيق الضفادع تارة ًوطنين الذبان ونعيق البوم ونعيب الغربان تارة أخري، أشد من أكره في هذا العالم!! ....  فلقد نغّص على حياتي واشقاني سآمة ًوارهقني ملامةً حتى اضمرت له كراهية لا حد لها!... سئمت منه اشد السأم وضقت به ذرعَا حتى أنني بت أضمر له شرًا للخلاص منه الى الابد !! ، وقررتُ بيني وبين نفسي أن أقتله !! .. اجل !! ..  هل تصدقون !!؟ قررتُ أن أقتله وأخمد أنفاسه كحل نهائي وجذري للخلاص من تأنيبه وكحل وحيد لنيل حريتي منه !!.. فلم أعد يومها أكره شيئًا ككرهيتي له وحقدي عليه من شدة ضيقي منه وتنمره عليّ، ولم يعد من خيار لي سوى أن اقتله وارتاح !!.. نعم أرتاح ! ، أتحرر!، أفرفر !، أطير في الفضاء!!، أفعل ما أشاء بلا رقيب ولا حسيب !!... ولهذا أخذتُ أتحين الفرص ببالغ الحرص حتى لاحت الفرصة ذات ليلة شتاء عاصفة، حيث كان الجميع في أعماق نفسي ، عقلي ورغباتي ورهباتي وشهواتي وآمالي وأحلامي ، جميعهم، اخلدوا الى النوم بينما ظل ضميري مستيقظًا - كعادته القديمة - يدور في ارجاء نفسي هنا وهناك ، ويلف ويدور، ويفتش في أعماق الشعور بل وحتى اللاشعور (!!؟؟) عن أي شيء كي يقيم عليه مآتم وعويلًا، وكنت أرمقه بعين حاقدة يتطاير منها شرر الكراهية بينما هو يرمقني بنظراتٍ قاسية غاضبة بعينيه القاسيتين اللتين تشعان باللوم الممزوج بالتهكم والاحتقار!! ، وعندها، لا أدري ماذا اعتراني!؟ ، فقد اجتاحتني موجة من الغضب الشديد العرم إلى حد الجنون فسللتُ - على الفور - خنجري من غمده وقفزتُ نحوه وطرحته أرضًا وهو ينظر الى بدهشة وصدمة كما لو انه لا يصدق ما يجري!! بينما انا كنت انظر اليه بعينين تقدحان نارًا وشرارًا وحقدًا لا مثيل له وشعرتُ بفرح جنوني غامر بعد ان طرحته ارضًا وجثوت بكل ثقلي على صدره استعدادًا لطعنه بخنجري ألف ألف طعنة وطعنة بلا رحمة ولا هوادة بكل حقدي وغضبي ولأروري غليلي منه وأشفي صدري منه انتقامًا لكل تلك السنين الكئيبة التي ظل يضطهدني ويوبخني فيها ليل نهار على ما فعلت وعلى ما لم افعل!!.... لقد شعرتُ وانا اجثو بجسمي فوقه شاهرًا خنجري في وجهه بنشوة الانتصار حتى الثمالة بينما هو يرمقني في دهشة وذهول واستسلام تام، ولم اتمالك نفسي من شدة الهياج والابتهاج بهذه اللحظة الفارقة التي ظللت أحلم بها طوال حياتي الماضية!!، فضحكتُ ضحكة جنونية منتشيًا بشعوري بالإنتصار عليه وأخذتُ أقهقه بشكل هستيري ثم صرختُ - ورذاذ لعابي يتناثر على وجهه - باعلى صوتي: 


" ايها الوغد المتنمر! ..  أيها القميء المُثرثر ! .. لقد سئمت منك ومن أنينك وطنينك ونقيقك ونعيقك!!.. سئمت من صراخك في وجهي لأبسط الاخطاء!.. سئمت من وجهك ومن نقيقك! .. سئمت من ثرثرتك ومواعظك ومن سخريتك وتهكمك .. سئمت من سوط لسانك وتوبيخك .. وقد حان الآن وقت الحساب".!

قلتً ذلك ثم أخذت أصرخ بصوت صاخب جنوني وأنا ألوح بخنجري : (هذا يوم الحساب!!، هذا يوم الحساب!!).. وظللت للحظات أصرخ في وجهه المذهول المستسلم بكل غضبي وأنا أقهقه بشكل جنوني منتشيًا بثورتي العظيمة ثم رفعت خنجري الى الأعلى وأنا أهمُّ بطعنه الطعنة النجلاء بكل غلي لأشفي غليلي منه! ، ولكن - وفي تلك اللحظة الفارقة الرهيبة - سمعته يقول بنبرة حزينة هادئة: 

" أتريد ان تقتلني كما قتلت بالامس القريب في لحظة غضب ويأس حبك الوحيد !! حبك الطاهر الوليد .. حبك الذي لم يتجاوز يومها سن الرضاعة !!؟ " هل تريد ان تقتلني اليوم في لحظة بؤس كما قتلته بالامس دون رحمة في لحظة غضب عارمة !؟؟ هل تريد أن تكون جبارًا في نفسك وما تريد أن تكون من المصلحين"!!؟؟.


قال لي ذلك بصوت حزين عميق ثم لاذ بالصمت السحيق!.. عندذاك شعرتُ بأن كل قواي تخور فجأة كما لو أنها مبنى شاهق عظيم انهار فجأة وتحول في ثوانٍ الى ركام !!... وعندها لا أدري ما اعتراني وماذا دهاني!!؟؟ فقد سكتَ عني الغضبُ كما لو انه عاصفة عظيمة هوجاء ثارت بشكل عنيف ومخيف للحظات ثم وحينما اقتربتُ من الاشجار لتقتلعها من جذورها هدأتْ فجأة بشكل مدهش وسكنتْ واختفت كأن شيئًا لم يكن !!... أو كما لو أنها زوبعة في قعر فنجان!!...  وهذا ما حدث لي!.. فقد سقط من قبضتي الخنجر وأخذت استعيد اتزاني ورشدي بعد أن استيقظ عقلي مفزوعًا على صوت صراخي فقمت من على صدر ضميري العجوز على الفور وأنا اشعر بأسف وخجل من نفسي و لا أصدق انني كدت - في لحظة غضب جنوني شديد- أن افتك بآخر ما بقي لي من عالمي الجميل والنبيل بعد أن قتلت حبي الوحيد والرضيع في ذلك الماضي البعيد!!!


لقد كان يومًا غريبًا ورهيبًا وجنونيًا لا يمكن أن أنساه ما حييت!!  والغريب والعجيب في الأمر كله هو أنني بعد تلك الحادثة او العاصفة الهوجاء او الثورة اليتيمة الرعناء التي اجتاحتني حيال ضميري لم تعد علاقتي بضميري وعلاقة ضميري بي كما كانت في الماضي والتي كانت يومها اشبه بعلاقة الجلاد بالمجلود!! ، فمنذ تلك الحادثة تبدلت طبيعة العلاقة بيننا - ضميري وأنا - واصبحت علاقة صداقة رقيقة وشراكة وثيقة يحرسها العقل بميزانه العتيد ، بل باتت أشبه بعلاقة الأب العطوف الحنون الرشيد بولده المراهق الوحيد، جوهرها المودة العميقة والرغبة في تحقيق  الصالح العام للنفس، واصبح مظهر هذه العلاقة هو التناصح بالحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي احسن والقول السديد لتحقيق السلامة والكرامة والاستقامة لسفينة النفس وحمايتها من الضياع وسط امواج الحياة التي لا تهدأ حتى تثور!!

(((((((((اخوكم المحب)))))))))

سليم نصر الرقعي

[email protected]

https://www.facebook.com/salimragi

(*) من آخر الكتب التي قرأتها قبل خروجي من ليبيا آواخر 1995 كتاب يفوح منه عبق التاريخ وزمن النهضة العربية الفكرية والأدبية (المغدورة) أسمه (الضمير) استعرته من المكتبة العامة في بنغازي في (سوق الحوت) والتي كنت مشتركًا فيها في تلك الحقبة، والكتاب من تأليف استاذ مصري في علم النفس من زمن الستينيات ولم يعد يحضرني أسمه الآن، وكما تحدث الكتاب عن طبيعة نشأة الضمير تحدث عن الأمراض التي تصيبه والتي قد تفتك به!، وتحدث عن امكانية تخدير الانسان لضميره الأخلاقي بل وافساده وتحويله إلى ضمير شرير يأمره بالمنكر وينهاه عن المعروف!!، بل وكيف يمكن للبعض أن يقوموا في لحظة كراهية للضوابط الأخلاقية والانسانية بقتل ضمائرهم كي يرتاحوا من صوت تأنيبه!!، ربما هذه الخاطرة التي كتبتها عام 2015 ونشرتها هنا اليوم مع بعض الاضافات هي خاطرة أدبية نفسية متأثرة بقراءتي لذلك الكتاب المهم والمفيد أكثر من كونها (قصة قصيرة) ولكنها قد تصلح كذلك أن تكون (قصة)!