كتاب قصة النبط : سكان بلاد الرافدين القدامى
الفصل الأول
المبحث الأول
المطلب الأول
معنى كلمة ((النبط ))في اللغة العربية
حينما نتحدث عن المسميات ينبغي لنا الاحتراز من الخلط بين الاسم وذات المسمى, البحث عن نشأة التسمية مسألة تختلف عن البحث في نشأة المسمى، والمسألتان تختلفان بدورهما عن علاقة الاسم بالمسمى. سوف نؤجل الكلام عن نشأة ((النبط)) وبيان من هم ؛ ونبدأ أولا بالحديث عن التسمية .
إذا ما سألتني عن معنى لفظة "نبط " عند علماء العربية، فإني أقول لك: إن لعلماء العربية آراء في المعنى، تجدها مسطورة في كتب اللغة وفي المعجمات وسأذكرها في هذا المبحث ؛ ولكنها كلها من نوع البحوث المألوفة المبنية على أقوال وآراء لا تعتمد على نصوص وقواعد لغوية مكتوبة منذ القدم ولا على دراسات عميقة مقارنة، بل وضعت على الحدس والتخمين والسماع وهي بذلك لا تختلف عن باقي الألفاظ ، وقد ذكرت هذه اللفظة في المعاجم اللغوية وفق ترتيب حروف الهجاء العربية في باب النون وتحت عنوان لفظة ( نبط ) واشتقاقاتها اللفظية .
وقد استخدمت كلمة (( النبط )) منذ العصر الجاهلي ؛ اذ جاء في شعر الاعشى ميمون بن قيس :
وطوفت لـلـمـال آفـاقـه عمان فحمص فأورشـلـيم
أتيت النجـاشـي فـي داره وأرض النبيط وأرض العجم (1)
إن أقدم نصوص وصلت من الشعر الجاهلي في تلك الفترة التي سبقت الإسلام، والتي عُرِفت بعصر الجاهلية - لا تتعدى مائة سنة تقريبًا، لذلك اعتبر كثير من الدارسين أن فترة الجاهلية هي فترة عاش فيها العرب قبل الإسلام بمائة أو مائة وخمسين عامًا؛ أي إن هؤلاء الشعراء الجاهليين - الذين نُقِل إلينا شعرُهم - كانوا يعيشون أول القرن السادس الميلادي؛ أي: قبل الهجرة بمائة سنة تقريبًا . (2)
والحقيقة أننا لا نعرف تحديدا متى ولا كيف أطلق اسم ( نبطي او النبط ) على هذا العرق او الجيل من الناس, ولا نعرف من أطلقه ولا نعرف قصده ولا المعنى الذي يرمي إليه ... ؛ و جذر الكلمة "نبط" واسع الاشتقاقات وغني بالدلالات .
وكان المهتمون باللغة العربية يرددون الاسم ويستخدمونه (( نبطي)) دون البحث في معناه ودون إثارة أي تحفظ على مناسبته ودون بذل أي جهد للبحث عن بديل أنسب وأدق في التعبير... ؛ وحيث أن أحدا من هؤلاء لم يعبر لنا عن فهمه للمقصود بالإشارة إلى هذا المعنى ؛ فإننا لا نعرف كيف فهموا هذه الكلمة ؛ وكيف نشأة العلاقة بين المعنى اللغوي الحقيقي للكلمة وبين الدلالة السلبية لها فيما بعد , وهذه نقطة ضعف خطيرة وفجوة سمحت لولوج التخرصات وتضارب الآراء بين اللغويين والإخباريين - المؤرخين - حول المعنى الذي ربما يكون قصده واضع المصطلح الأول ومن تبعه في التسمية ... ؛ إننا هنا أمام شاهد لغوي صارخ على اعتباطية اللغة وعشوائية العلاقة بين الدال والمدلول... ؛ لو كانت العلاقة بين الدال والمدلول علاقة طبيعية منطقية لما غاب عنا القصد الذي رمى إليه ذلك الواضع الأول الذي وضع لهذا الشعب أو العرق هذه التسمية؛ لعرفنا ما إذا كان قصده من نسبة الاسم إلى هؤلاء السكان ؟
وكان العرب يطلقون الاسم على المسمى لأدنى مناسبة ؛ كإطلاق اسم البقرة على السورة القرآنية لمجرد ورود اسمها فيها !!
إذ سميت بهذا الاسم لأنها تحتوي على قصة البقرة وبني إسرائيل ؛ علما ان السورة اشتملت على ألف أمر وألف نهي وألف حكم وألف خبر (3)
وان إطلاق الأسماء ليس بالأمر السهل ولا الهين ولذلك يقول البقاعي : " وكما أنه ليس لكل أحد مُنّة أن يصف فكذلك ليس لكل أحد منة أن يسمي .(4)
وان كان البقاعي يتكلم عن موضوع خاص متعلق بأسماء السور القرآنية وأسماء الله إلا إن محل الشاهد من كلامه بالنسبة لي ؛ صعوبة إطلاق الأسماء على المسميات جزافا واعتباطا .
العلاقة بين الأسماء والمعاني
قال ابن القيم : " فلما كانت الأسماء قوالب للمعاني، ودالةً عليها، اقتضت الحكمة أن يكون بـينها وبـينها ارتباطٌ وتناسبٌ، وأن لا يكون المعنى معها بمنزلة الأجنبـي المحض الذي لا تعلّق له بها، فإن حكمة الحكيم تأبى ذلك ، والواقع يشهد بخلافه، بل للأسماء تأثيرٌ في المسميات، وللمسميات تأثّر عن أسمائها في الحسن والقبح، والخفة والثقل، واللطافة والكثافة ، كما قيل :
وقلما أبصرت عيناك ذا لقبٍ *** إلا ومعناه إن فكرت في لقبه
ولما كان بـين الأسماء والمسميات من الارتباط والتناسب والقرابة، ما بـين قوالب الأشياء وحقائقها، وما بـين الأرواح والأجسام، عبر العقل من كل منهما إلى الآخر، كما كان إياس بن معاوية وغيره يرى الشخص ، فيقول : ينبغي أن يكون اسمه كيت وكيت، فلا يكاد يخطئ ، وضدّ هذا العبور من الاسم إلى مسماه.(5)
وحكي بعض أهل الأدب ان المتنبي - الشاعر العراقي - التقى في بعض منازل سفره بعبد اسود قبيح المنظر ؛ فقال له : ما اسمك يا رجل ؟
فقال : زيتون ؛ فقال المتنبي يداعبه :
سموك زيتونا وما انصفوا ... لو انصفوا سموك زعرورا
لان في الزيتون زيت يضيء ... وانت لا زيتا ولا نورا (6)
إن بساطة وبدائية الحياة العربية - ولاسيما الاعراب وسكان الصحاري - وشؤونها يستتبع إلى جانب ضيق دائرة التفكير فقراً في اللغة، مثلهم في ذلك مثل القبائل البدائية والرعوية الأخرى ... ؛ ولقد حاول اللغويون إعطاء صورة مغايرة وذلك بتضخيم معاجم اللغة بكلمات استعملها الشعراء وصفاً لأشياء فذكروها كأسماء ، فإن أطلق شاعر كلمة الهيصم على الأسد من الهصم وهو الكسر، وأطلق عليه آخر الهراسَّ من الهرس وضع أصحاب المعاجم الكلمتين على أنهما من أسماء الأسد وهكذا فيما يخص السيف والناقة... ؛ وعندما يتحدثون عن غنى اللغة العربية فالمقصود ولا شك هو ما يتصل بحياتهم مثل البعير وما يتصل به حيث ملئوا اللغة العربية بشؤون الإبل ولم يتركوا صغيرة أو كبيرة إلاّ ولها لفظاً أو ألفاظاً ، أسماء الجمال والخيول والنوق، وحملها وحلبها ورضاعها وفطامها ونعوتها في طولها وقصرها وسمنها وهزالها وأصواتها وعلفها واجترارها ورعيها وبروكها وأبوالها وسيرها إلى ما لا يحصى من هذا، ولا يختلف أمر الصحراء والخيمة في ذلك ؛ أي في الحدود التي رسمتها لهم بيئتهم مثلهم في ذلك مثل المغول وأسماء الحصان أو الاسكيمو الذين عندهم أربعون اسما للثلج .
وفيما خرج عن حدود ما ذكرنا تبقى اللغة العربية فقيرة ؛ فيما يتصل بالبحر وعالمه والزراعة وأدواتها والبشر وأجناسهم وأعراقهم وانجازاتهم الفكرية والعلمية ومعتقداتهم الدينية, والفلسفة والعلوم والمعارف والعمران والصناعات والمهارات والألبسة وأنواع الترف والفنون والكتابة وما يتعلق بها والنظم السياسية والحكومات والدواوين وفي كل ما يتعلق بأسباب الحضارة؛ أو غير دقيقة في التعبير عنها .(7)
وبما أن اللغة ذاكرة لسانية للشعوب، وأرشيف حضاري حي، وكلما كان الشعب متمدناً ارتقت لغته، وصارت أكثر ثراءً وتجريداً.
والعرب في أول أمرهم كانوا أهل بداوة، لا يعرفون من الحضارة الكثير، لهذا عرفت العربية أكثر من ثمانين اسماً للسيف، ولا يوجد بها كلمة واحدة تقابل لفظة "هندسة" المأخوذة من الفارسية، أو فعل بمعنى "ترجم" الذي أخذوه عن السريانية.
لهذا كثيراً ما اقترضت العربية الألفاظ من اللغات الأخرى التي نشأت في كنف حضارة ما ؛ فكان من دأب العرب تعريب الألفاظ الدخيلة في لغتهم بعد تصحيفها وتحريفها لتناسب اللسان العربي . (8)
معنى كلمة (( النبط )) في المعاجم اللغوية
جاء في معجم العين للفراهيدي :
النبط والنبيط : كالحبش والحبشي في التقدير , وسموا به , لأنهم أول من استنبط الأرض , والنسبة إليهم : نبطي , وهم قوم ينزلون سواد العراق , والجمع : الأنباط .
وجاء في معجم الصحاح :
نَبَطَ الماءُ يَنْبِطُ ويَنْبُطُ نُبوطاً : نَبَعَ . وأنْبَطَ الحَفَّارُ : بلَغَ الماءَ . والاسْتِنْباطُ : الاستخراج . والنَبَط والنَبيطُ : قومٌ يَنزلون بالبطائح بين العراقَين ، والجمع أنْباطٌ . يقال رجلٌ نَبَطيٌّ ونَباطِيٌّ ونَباطٍ ، مثل يَمَنِيٍّ ويَمانيٍّ ويَمانٍ .
وقد اسْتَنْبَطَ الرجلُ . وفي كلام أيُّوبَ ابن القِرِّيَّةِ : "أهلُ عمانَ عربٌ اسْتَنْبَطوا، وأهلُ البحرين نَبيطٌ استعربوا" . (10)
وقد جاء في معجم مختار الصحاح :
ن ب ط : نَبَطَ الماء نبع وبابه دخل وجلس و الاسْتِنْبَاطُ الاستخراج و النَّبَطُ بفتحتين و النَّبِيطُ قوم ينزلون بالبطائح بين العراقين والجمع أَنْبَاطٌ يقال رجل نَبَطِيٌّ و نَبَاطِيٌّ و نَبَاطٍ مثل يَمَني ويماني ويمانٍ وحكى يعقوب نُبَاطِيٌّ أيضا بضم النون .(11)
وقد جاء في معجم تاج العروس :
النَّبَطُ : جِيلٌ يَنْزِلُونَ بالبَطَائحِ بَيْنَ العِراقَيْنِ كَذَا في الصّحاح . وفي التَّهْذِيب : يَنْزِلُون السَّوَادَ . وفي المُحْكَمِ : سَوَادَ العِرَاقِ كالنَّبِيطِ كَأَمِيرٍ كالحَبَشِ والحَبِيشِ في التَّقْدِير . وهُم الأَنْبَاطُ جَمْعٌ وهُوَ نَبَطِيٌّ مُحَرَّكَة ونَبَاطِيٌّ مُثَلَّثَةً ونَبَاطٍ كثَمانٍ مِثْلُ يَمَنِيّ ويَمَانِيٍّ ويَمَانٍ .
نَقَلَ الجَوْهَرِيُّ التَّحْرِيكَ والفَتْحَ في الثّاني . قال : وحَكَى يَعْقُوبُ نُبَاطِيّ بالضّمِّ أَيْضاً.
وقال ابْن الأَعْرَابِيّ : رَجُلٌ نُبَاطِيٌّ بضَمّ النُّونِ ونَبَاطِيّ ولا تَقُلْ نَبَطيّ ويُقَالُ : إِنَّمَا سُمُّوا نَبَطاً لاسْتِنْبَاطِهم ما يَخْرِجُ من الأَرْضِينَ وفي حَدِيثٍ ابْنِ عَبّاسٍ : نَحْنُ مَعاشِرَ قُرَيْشٍ مِنَ النَّبَطِ من أَهْلِ كُوثَى رَبِّي قِيلَ : إِنَّ إِبْرَاهِيمَ الخَلِيلَ عَلَيْهِ السَّلامُ وُلِدَ بِهَا وكانَ النَّبَطُ سُكَّانَها .
قُلْتُ : وقد وَرَدَ هكَذَا أَيضاً عن عَلِيٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْه كما رَوَاهُ ابْنُ سِيرِينَ عن عُبَيْدَةَ السّلمانِيّ عَنْه : مَنْ كانَ سَائِلاً عَنْ نِسْبَتِنَا فإِنّا نَبَطٌ من كُوثَى . وهذا القَوْلُ مِنْهُ ومِن ابنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُم إِشارَةٌ إلى الرَّدْعِ عن الطَّعْنِ في الأَنْسَابِ والتَّبَرَّى عن الافْتِخَارِ بِها وتَحْقِيقٌ لِقَوْلِهِ عَزَّ وجَلَّ : " إِنّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكمْ ".
وقَدْ تَقَدَّم تَحْقِيقُ ذلِكَ في ك و ث بأَبْسَطَ مِنْ هذا فَراجِعْهُ .
وفي حَدِيثِ عَمْرِو بنِ مَعْدِي كَرِبَ سَأَلَهُ عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَنْ سَعِدِ بنِ أَبِي وَقّاصٍ فقالَ : أَعْرَابِيٌّ في حِبْوَتِهِ نَبَطِيٌّ في جِبْوَتِهِ . أَرادَ أَنَّه في جِبَايَةِ الخَرَاجِ وعِمَارَةِ الأَرَاضِي كالنَّبَطِ حِذْقاً بِهَا ومَهَارَةً فِيهَا . لأَنَّهم كانَوا سُكَّانَ العِرَاقِ وأَرْبابَها.
وفي حَدِيثِ ابْنِ أَبِي أَوْفَى : " كُنَّا نُسْلِفُ نَبِيطُ أَهْلِ الشّام وفي رِوَايَة : أَنْبَاطاً مِنْ أَنْبَاطِ الشَّام . وفي حَدِيثِ الشَّعْبِيّ : أنَّ رَجُلاً قال لآخَرَ : يا نَبَطِيٌّ فقالَ : لا حَدَّ عَلَيْه كُلُّنَا نَبَطٌ . يريد الجِوَارَ والدَّارَ دُونَ الوِلاَدَةِ .
وحَكَى أَبُو عَلِيٍّ أَنَّ النَّبَطَ وَاحِدٌ بِدلالَةِ جَمْعِهِمْ إِيّاهُ في قَوْلهِم : أَنْبَاطٌ . فأَنْبَاطٌ في نَبَطٍ كأَجْبَالٍ في جَبَل . والنَّبِيطُ كالكَلِيبُ والمَعِيزُ . وتَنَبَّطُ الرَّجُلُ : تَشَبَّهَ بِهِم . ومنه الحَدِيثُ : لا تَنَبَّطُوا في المَدائن أَيْ لا تَشَبَّهُوا بالنَّبَطِ في سُكْنَاهَا واتّخاذِ العَقارِ والمِلْكِ .
واسْتَنْبَطَ الرَّجُلُ : صَارَ نَبَطِيّاً . ومنه تَمَعْدَدُوا ولا تَسْتَنْبِطُوا وفي الصّحاح في كَلامِ أَيُّوبَ بنِ القِرِّيَّةِ أهْلُ عُمَانَ عَرَبٌ اسْتَنْبَطُوا وأَهْلُ البَحْرَيْنِ نَبَطٌ اسْتَعْرَبُوا.(12)
وقد جاء في معجم لسان العرب :
النَّبَط الماء الذي يَنْبُطُ من قعر البئر إِذا حُفرت وقد نبَطَ ماؤها ينْبِطُ ويَنْبُطُ نَبْطاً ونُبوطاً وأَنبطنا الماءَ أَي استنبطناه وانتهينا إِليه ابن سيده نبَطَ الرَّكِيّةَ نَبْطاً وأَنْبَطها واسْتَنْبَطها ونبّطها الأَخيرة عن ابن الأَعرابي أَماهَها واسم الماء النُّبْطةُ والنَّبَطُ والجمع أَنْباط ونُبوط ونبطَ الماءُ ينْبُطُ وينْبِط نُبوطاً نبع وكل ما أُظهر فقد أُنْبِط واسْتَنْبَطه واستنبط منه علماً وخبراً ومالاً استخرجه والاسْتنْباطُ الاستخراج واستنبَطَ الفَقِيهُ إِذا استخرج الفقه الباطن باجتهاده وفهمِه قال اللّه عزّ وجلّ لعَلِمَه الذين يستنبطونه منهم قال الزجّاج معنى يستنبطونه في اللغة يستخرجونه وأَصله من النبَط وهو الماء الذي يخرج من البئر أَوّل ما تحفر ويقال من ذلك أَنْبَطَ في غَضْراء أَي استنبطَ الماء من طين حُرّ والنَّبَطُ والنَّبِيطُ الماء الذي يَنْبُِطُ من قعر البئر إِذا حُفرت قال كعب بن سعد الغَنَوِيُّ قَريبٌ ثَراه ما يَنالُ عَدُوُّه له نَبَطاً عِند الهَوانِ قَطُوبُ ( * قوله « عند الهوان » هو هكذا في الصحاح والذي في الاساس آبي الهوان ) ويروى قريب نَداه ويقال للرِكيّة هي نَبَطٌ إِذا أُميهتْ ويقال فلان لا يُدْرَكُ له نَبَطٌ أَي لا يُعْلَمُ قَدْرُ علمه وغايَتُه وفي الحديث مَن غَدا مِن بَيتِه يَنْبِطُ عِلماً فَرَشَتْ له الملائكةُ أَجْنِحَتَها أَي يُظهره ويُفْشِيه في الناس وأَصله مِن نَبَطَ الماءُ ينبط إِذا نَبعَ ومنه الحديث ورجلٌ ارْتَبط فرساً ليَسْتَنْبِطَها أَي يَطلُب نَسْلها ونِتاجَها وفي رواية يَسْتَبْطِنها أَي يطلب ما في بطنها ابن سيده فلان لا يُنالُ له نَبَطٌ إِذا كان داهياً لا يُدْرَك له غَوْر والنبَط ما يتَحَلَّبُ من الجَبل كأَنه عَرَق يخرج من أَعْراض الصخر أَبو عمرو حفَرَ فَأَثْلَجَ إِذا بلَغ الطين فإِذا بلغ الماء قيل أَنْبَطَ فإِذا كثُر الماء قيل أَماهَ وأَمْهَى فإِذا بلغ الرّملَ قيل أَسْهَبَ وأَنبَط الحَفّارُ بلغ الماء ؛ ابن الأَعرابي يقال للرجل إِذا كان يَعِدُ ولا يُنْجِزُ فلان قريب الثَّرَى بعيدُ النَّبَطِ وفي حديث بعضهم وقد سُئل عن رجل فقال ذلك قريب الثرى بعيدُ النَبط يريد أَنه داني المَوْعِد بعيدُ الإِنْجاز وفلان لا يُنال نَبَطُه إِذا وُصف بالعزّ والمَنَعةِ حتى لا يجد عدوُّه سبيلاً لأَن يتَهَضَّمَه ونَبْطٌ واد بعينه قال الهذلي أَضَرَّ به ضاحٍ فَنَبْطا أُسالةٍ فَمَرٌّ فأَعلى حَوْزِها فَخُصورُها والنَّبَطُ والنُّبْطةُ بالضم بَياض تحت إِبْط الفَرس وبطنِه وكلّ دابّة وربما عَرُضَ حتى يَغْشَى البطن والصدْر يقال فرس أَنْبَطُ بيِّن النَّبَط وقيل الأَنْبطُ الذي يكون البياض في أَعلى شِقّي بطنه مما يليه في مَجْرى الحِزام ولا يَصعَد إِلى الجنب وقيل هو الذي ببطنه بياضٌ ما كان وأَين كان منه وقيل هو الأَبيض البطن والرُّفْغ ما لم يصعَد الى الجنبين قال أَبو عبيدة إِذا كان الفرسُ أَبيضَ البطن والصدر فهو أَنبط وقال ذو الرمة يصف الصبح وقد لاحَ للسّارِي الذي كَمَّل السُّرَى على أُخْرَياتِ الليْل فَتْقٌ مُشَهَّرُ كَمِثْل الحِصانِ الأَنْبَطِ البَطْنِ قائماً تَمايَل عنه الجُلُّ فاللَّوْنُ أَشْقَرُ شبّه بياضَ الصبح طالعاً في احْمِرار الأُفُق بفرس أَشْقَر قد مال عنه جُلُّه فبان بياضُ إِبْطه وشاة نَبْطاء بيضاء الشاكلة ابن سيده شاةٌ نَبطاء بيضاء الجنبين أَو الجنب وشاة نبطاء مُوشَّحةٌ أَو نَبْطاءُ مُحْوَرَّةٌ فإِن كانت بيضاء فهي نبطاء بسواد وإِن كانت سوداء فهي نبطاء ببياض والنَّبِيطُ والنَبطُ كالحَبِيشِ والحَبَشِ في التقدير جِيلٌ يَنْزِلُون السواد وفي المحكم ينزلون سواد العراق وهم الأَنْباطُ والنَّسَبُ إِليهم نَبَطِيٌّ وفي الصحاح ينزلون بالبَطائِح بين العِراقين ؛ ابن الأَعرابي يقال رجل نُباطيّ بضم النون ( * قوله « بضم النون » حكى المجد تثليثها ) ونَباطِيٌّ ولا تقل نَبَطِيٌّ وفي الصحاح رجل نَبَطيٌّ ونَباطِيٌّ ونَباطٍ مثل يَمنيّ ويمَانيّ ويمان وقد استنبطَ الرجلُ وفي كلام أَيُّوبَ بن القِرِّيّةِ أَهل عُمان عَرَبٌ اسْتَنْبَطُوا وأَهل البَحْرَيْن نَبِيطٌ اسْتَعْرَبُوا ويقال تَنَبَّطَ فلان إِذا انْتَمى إِلى النَّبَط والنَّبَطُ إِنما سُموا نَبَطاً لاسْتِنْباطِهم ما يخرج من الأَرضين وفي حديث عمر رضي اللّه عنه تَمَعْدَدُوا ولا تَسْتَنْبِطُوا أَي تَشبَّهوا بمَعَدٍّ ولا تشبَّهوا بالنَّبط وفي الحديث الآخر لا تَنَبَّطُوا في المدائن أَي لا تَشَبَّهوا بالنَّبط في سكناها واتخاذ العَقارِ والمِلْك وفي حديث ابن عباس نحن مَعاشِر قُريْش من النَّبط من أَهل كُوثَى رَبّاً قيل إِن إِبراهيم الخليل ولد بها وكان النَّبطُ سكّانَها ومنه حديث عمرو بن مَعْدِيكَرِب سأَله عُمر عن سَعْد بن أَبي وقّاص رضي اللّه عنهم فقال أَعرابيٌّ في حِبْوتِه نَبَطِيٌّ في جِبْوتِه أَراد أَنه في جِبايةِ الخَراج وعِمارة الأَرضين كالنَّبط حِذقاً بها ومَهارة فيها لأَنهم كانُوا سُكَّانَ العِراقِ وأَرْبابَها وفي حديث ابن أَبي أَوْفى كنا نُسْلِف نَبِيط أَهل الشام وفي رواية أَنْباطاً من أَنْباط الشام وفي حديث الشعبي أَن رجلاً قال لآخر يا نَبَطيّ فقال لا حَدّ عليه كلنا نَبطٌ يريد الجِوارَ والدار دُون الوِلاة وحكى أَبو علي أَن النَّبط واحد بدلالة جمعهم إِيَّاه في قولهم أَنباط فأَنباط في نَبَط كأَجْبال في جبَل والنبِيطُ كالكليب وعِلْكُ الأَنْباطِ هو الكامان المذاب يجعل لَزُوقاً للجرح والنَّبْطُ الموْتُ وفي حديث علي وَدَّ السُّراةُ المُحكِّمةُ أَن النَّبْطَ قد أَتى علينا كلِّنا قال ثعلب النَّبْطُ الموت وَوَعْساء النُّبَيْطِ رملة معروفة بالدّهْناء ويقال وعساء النُّمَيْطِ قال الأَزهري وهكذا سماعي منهم وإِنْبِط اسم موضع بوزن إِثْمِد وقال ابن فَسْوةَ فإِنْ تَمْنَعُوا مِنها حِماكُم فإِنّه مُباحٌ لها ما بين إِنْبِطَ فالكُدْرِ. (13)
وقد جاء في معجم مقاييس اللغة :
نبط : كلمة تدلّ على استخراج شيء ، واستنبطت الماء : استخرجته. والماء نفسه إذا استخرج نبط. ويقال إنّ النبط سمّوا به لاستنباطهم المياه. ومن المحمول على هذا النبطة : بياض يكون تحت إبط الفرس ، وفرس أنبط ، كأنّ ذلك البياض مشبّه بماء نبط . (14)
وقد جاء في معجم المصباح المنير:
النبط : جيل من الناس ينزلون سواد العراق ، ثمّ استعمل في أخلاق الناس وعوامهم ، والجمع أنباط. والواحد نباطي بزيادة ألف ، والنون تضمّ وتفتح ، قال الليث : ورجل نبطيّ ، ومنعه ابن الأعرابي. واستنبطت الحكم : استخرجته بالاجتهاد ، وأنبطته إنباطا مثله ، وأصله من استنبط الحافر الماء.
- نبيط : تصغير أنبط. والاسم النبط ، وهو الفرس الّذى ابيضّ بطنه وما سفل منه وأعلاه من أي لون كان. والنبط : نبط البئر ، وهو أوّل ما تستخرجه من مائها. واستنبط فلان بئرا وأنبطها : إذا حفرها.(15)
وقد جاء في معجم المعاني الجامع :
قومٌ كانوا يسكنون بين العراق والأردن ؛ كانت لدولتهم حضارة عاصمتها البتراء ؛ وتطلق الآن كلمة النبط على أخلاط الناس وعوامهم .(16)
وقد جاء في تهذيب اللغة / الجزء الثاني : والنبط إنما سموا نبطا لاستنباطهم ما يخرج من الارضين . و وعساء النبيط : رملة معروفة بالدهناء .(17)
النتائج المترتبة على اقوال المعاجم اللغوية
نخلص من أقوال المعاجم اللغوية فيما يخص كلمة (( النبط )) إلى النتائج التالية :
أولا : أنّ الأصل الواحد في المادّة : هو خروج شيء أو إخراجه من باطن شيء أو قعره. ومن مصاديقه : استخراج الماء من قعر البئر أو من باطن الأرض.
واستخراج المشكل من الأحكام والعلوم من مصادرها. وخروج بياض من بطن الفرس وبطن الفرس باطن أعضائه وفي خفاء منه .
والنبطة فعلة : ما ينبط ويستخرج من محلّ باطن خفىّ. والبياض الذّى يظهر من بطن الفرس ؛ فالجذر اللغوي لكلمة "نبط" أي نبع و"استنبط" بمعنى استخرج ؛ أي ظهر وبان .
فالمعنى الحقيقي الذي وضع له لفظ (( النبط )) والمعاني المجازية الأخرى له كلها ذات دلالات ايجابية كما مر عليكم أنفا ؛ ولنا أن نتساءل ما علاقة المعنى السابق بالمعنى الذي نحن بصدده ؟
وقد أجاب عنه البعض - كما مر عليكم انفا - : (( ويقال إنّ النبط سمّوا به لاستنباطهم المياه )) و ((... والنبط إنما سموا نبطا لاستنباطهم ما يخرج من الارضين)) .
ولو كان الأمر كما ذكروا ؛ لصح إطلاق لفظة النبط على اغلب سكان المعمورة إن لم نقل كلهم ..!!
فكل بني البشر يبذلون جهودا لاستنباط المياه من الابار وغيرها ؛ نعم قد تميز سواد العراق بكثرة الأنهار والروافد والبطائح والآبار إلا أنها طبيعية لا دخل للسكان بإيجادها ما عدا الآبار ... ؛ من خلال ما سبق نتعرف على عدم دقة هذا الإطلاق واعتباطية هذا الوضع .
ولو سلمنا بصحة هذا الوضع والإطلاق اللغوي - فرضا- ؛ لنا أن نتساءل ما علاقة المعنى الحقيقي والمعاني المجازية لكلمة النبط في اللغة العربية وبين الدلالة السلبية لكلمة النبط في استخداماتها الاجتماعية لدى العرب ؟!
وبما الاستعمال اللغوي لدى العرب يقسم إلى حقيقي ومجازي، فالاستعمال الحقيقي هو إستعمال اللفظ في المعنى الموضوع له الذي قامت بينه وبين اللفظ علاقة لغوية بسبب الوضع ، ولهذا يطلق على المعنى الموضوع له إسم المعنى الحقيقي والاستعمال المجازي هو إستعمال اللفظ في معنى آخر لم يوضع له ولكنه يشابه ببعض الاعتبارات المعنى الذي وضع اللفظ له، ومثاله أن تستعمل كلمة " البحر " في العالم العزير علمه لأنه يشابه البحر من الماء في الغزارة والسعة، ويطلق على المعنى المشابه للمعنى الموضوع له إسم " المعني المجازي " وتعتبر علاقة اللفظ بالمعنى المجازى علاقة ثانوية ناتجة عن علاقاته اللغوية الأولية بالمعنى الموضوع له، لأنها تنبع عن الشبه القائم بين المعنى الموضوع له والمعنى المجازي .
والاستعمال الحقيقي يؤدي غرضه، وهو إنتقال ذهن السامع إلى تصور المعنى بدون أي شرط، لان علاقة السببية القائمة في اللغة بين اللفظ والمعنى الموضوع له كفيلة بتحقيق هذا الغرض .
وأما الاستعمال المجازي فهو لا ينقل ذهن السامع إلى المعنى، إذ لا توجد علاقة لغوية وسببية بين لفظ البحر والعالم، فيحتاج المستعمل لكي يتحقق غرضه في الاستعمال المجازي إلى قرينة تشرح مقصوده فإذا قال مثلا: " بحر في العلم " كانت كلمة في العلم قرينة على المعنى المجازي، ولهذا يقال عادة أن الاستعمال المجازي يحتاج إلى قرينة دون الاستعمال الحقيقي ؛ ونميز المعنى الحقيقي عن المعنى المجازي بالتبادر من حاق اللفظ لان التبادر كذلك يكشف عن الوضع ...(18) ..
فالمعنى الحقيقي لكلمة النبط لا يساعد على إنشاء علاقة مفهومة بينه وبين معنى الأقوام التي سكنت العراق أو سكان العراق القدامى ؛ ولو تنزلنا وقلنا ان الاستخدام مجازي فيهم يبقى الإشكال قائما ..!! , هذا فيما يخص معنى (( سموا نبطا لاستنباطهم الماء من الارضين ) اما الدلالة السلبية لكلمة النبطي فالأمر هنا أدهى وآمر ..
إذ يحتاج الاستعمال المجازي إلى وجه شبه - المشابهة - بين المعنى الحقيقي والمعنى المجازي ؛ فالمجاز هو النقل عما وضع له وهذا النقل لا يتم اعتباطا بل لوجود علاقة مشابهة أو ما شاكل بين المعنى الحقيقي والمجازي ؛ ليت شعري ما علاقة النبطي - ابن الحضارات القديمة , العراقي الأصيل - بالدلالات السلبية لكلمة النبط او النبطي في الاستعمالات اليومية في المجتمعات العربية حتى عدت هذه الكلمة من ألفاظ القذف ..!!!
فان قالوا : إن الاستعمال عرفي ؛ قلنا لهم : المفروض بالعرف الذي يدعي التمسك بالعروبة والتحدث بالعربية أن يراعي قواعدها و أصولها عندما يستخدم كلماتها لا أن يطلقها جزافا على الآخرين , وللدكتور جواد علي تعليق على هذا الموضوع اذ ينفي كون النبط سموا نبطا لاستنباطهم الماء ؛ فقد قال : (( فهو كلام كان يسمع في القديم اما اليوم فلا يمكن ان يقام له وزن , والكلمة اسم علم ليس غير ؛ مثل سائر أسماء الأعلام لا علاقة له بالماء ولا باستنباط الماء )) - راجع : المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام - .
فلنعرج الآن إلى بيان كلمة القوم أو العرق أو الجيل الذي قصده الواضع من لفظ (( النبط )) :
ثانيا : قومٌ يَنزلون بالبطائح بين العراقَين ؛ لابد لنا من تبيان المفردات الثلاثة التي وردت في هذا التعريف : القوم - البطائح - العراقين .
جاء في لسان العرب ان معنى القوم : ((والقَوْمُ الجماعة من الرجال والنساء جميعاً وقيل هو للرجال خاصة دون النساء )). ((19 ))
وجاء في مختار الصحاح : (( القَوْمُ الرجال دون النساء لا واحدا له من لفظه قال زهير وما أدري ولست إخال أدري أقوم آل حصن أم نساء وقال الله تعالى { لا يسخر قوم من قوم } ثم قال { ولا نساء من نساء } وربما دخل النساء فيه على سبيل التبع لأن قوم كل نبي رجال ونساء وجمع القوم أقْوامٌ وجمع الجمع أَقاوِمُ و أقائِمُ . )) . (( 20))
وجاء في معجم المعاني الجامع : ((لقَوْمُ : الجماعةُ من النَّاس تجمعهم جامعة يقومون لها ))
•((قَوْمُ الرَّجُلِ : أَقْرِبَاؤُهُ الَّذِينَ يَجْتَمِعُونَ مَعَهُ فِي جَدٍّ وَاحِدٍ أَوْ سُلاَلَةٍ وَاحِدَةٍ)) ((21))
أما فيما يخص كلمة البطائح فقد نقل صاحب تاج العروس عن صاحب الصحاح :
((وفي الصّحاح : وبَطائِحُ النَّبَطِ : بين العِراقَين . وفي اللسان : البَطِيحَةُ : ما بينَ واسِطَ والبَصرةِ وهو ماءٌ مُستنْقِعٌ لا يُرَى طَرْفاه مِن سَعَتِه وهو مَغِيضُ ماءِ دِجْلَةَ والفُراتِ وكذلك مَغايِضُ ما بَين بَصْرَةَ والأَهوازِ . والطَّفُّ : ساحِلُ البَطِيحَةِ )).((22))
اما كلمة العراقين فقد جاء في لسان العرب : ((والعِرَاقانِ : الكوفة والبصرة)).((23))
وذكـر الزمخشري ان (العراقيـن) هما الكوفة والبصرة . ثم جاء البلدانيون من الفرس فأطلقوا على جزء من بلاد فارس اسم (عراق) وعرف بأسم (عراق العجم) او (العراق العجمي) تمييزا له عن العراق العربـي .((24))
نستنج من التعاريف الانفة ؛ ان النبط جماعة من الناس تجمعهم جامعة يقومون لها ويرتبطون بوشائج ترجعهم الى سلالة واحدة وعرق واحد ؛ وهم يسكنون في البطائح نفسها وذلك لان الباء هنا (( قوم ينزلون بالبطائح )) ظرفية اي بمعنى في , كقوله تعالى : (( ولقد نصركم الله ببدر )) ؛ فالقوم الذين يسكنون البطائح الواقعة بين الكوفة والبصرة ؛ وقيل الذين يسكنون البطائح الواقعة ما بين البصرة والاهواز ؛ هم النبط لا غير وفقا لهذا الرأي .
ثالثا : ((النَّبَطُ : جِيلٌ يَنْزِلُونَ بالبَطَائحِ بَيْنَ العِراقَيْنِ ))
جاء هذا الرأي متطابقا مع الرأي السابق الا انه يختلف عنه بنقطة جوهرية ومهمة اذ عبر عن النبط بالجيل بدلا من القوم ؛ وسنوضح الان معنى كلمة الجيل :
فقد جاء في معجم المعاني الجامع : (( الجيلُ : الأمة )) و (( الجيلُ : الجنسُ من الناس ؛ فالترك جيل , والروم جيل , والغجر جيل ؛ وجيل العرب يعني أمة العرب )) .((25))
وجاء في المعجم الوسيط نقلا عن مختار الصحاح : ((جيل من الناس اي صنف )). ((26))
وجاء في لسان العرب :
((وفي حديث سعد بن معاذ : ما أَعْلَمُ من جيل كان أخبث منكم ؛ الجيل الصنف من الناس , وقيل : الأمة , وقيل : كل قوم يختصون بلغة جيل )). ((27))
بناءا على هذا الرأي فالنبط هم شعب واحد موحد وله لغة خاصة به كالشعب التركي ؛ أو هم أمة كأمة العرب , فهذا الرأي يذهب إلى إن عدد النبط ونفوسهم اكبر من معنى القوم أي اكبر من الجماعة , فالشعب أو الأمة مجموعة أقوام وعرقيات وجماعات ؛ وان دل هذا على شيء فإنما يدل على الكثرة الكاثرة والأعداد الغفيرة من العراقيين الذين بلغ عددهم حدا يتساوى مع باقي الشعوب والأمم المعاصرة والمجاورة لهم ؛ إن لم يزد عليهم .
رابعا : (( وفي التَّهْذِيب : يَنْزِلُون السَّوَادَ ))
لم يتطرق هذا الرأي إلى جنس النبط , إنما ذكر محل سكناهم ؛ إذ ذهب إلى ان موطنهم السواد وليست البطائح المحصورة بين العراقين ... .
والسواد كما جاء في المعاجم اللغوية :
•السواد في معجم المعاني الجامع وقاموس المعجم الوسيط : ((السوادُ : جماعةُ النخل والشجر والنبات ؛ لأن الخضرة تقارب السواد )) ؛ (( والسواد : مجتمع النَّخل أو غيره من الشّجَر والنَّبات ، ومنه سواد العراق لأنه يرى أسود من بعيد )). ((28))
وجاء في معجم الرائد :
(( سواد البلد : ما حوله من القرى والريف )). ((29))
وجاء في لسان العرب :
(( والسواد : جماعةُ النخلِ والشجرِ لِخُضْرَته واسْوِدادِه ؛ وقيل : إِنما ذلك لأَنَّ الخُضْرَةَ تُقارِبُ السوادَ .
وسوادُ كلِّ شيءٍ : كُورَةُ ما حولَ القُرَى والرَّساتيق .
والسَّوادُ : ما حَوالَي الكوفةِ من القُرَى والرَّساتيقِ وقد يقال كُورةُ كذا وكذا وسوادُها إِلى ما حَوالَيْ قَصَبَتِها وفُسْطاطِها من قُراها ورَساتيقِها .
وسوادُ الكوفةِ والبَصْرَة : قُراهُما . )). ((30))
وقال صاحب معجم تاج العروس :
(( ومن المجَاز : السَّوادُ من البَلْدَةِ : قُرَاها وقد يقال : كُورَة كذا وكذا وسَوادُهَأ إلى ما حوالَيْ قَصَبَتِها وفُسْطَاطِهَا من قُرَاهَا ورَسَاتِيقها . وسَوادُ البصرةِ والكُوفَة : قُرَاهما )).((31))
لابد لنا من تبيان بعض الكلمات التي وردت انفا في تعريف السواد - الكورة , القصبة , الفسطاط , الرساتيق - ؛ كي تتضح الصورة وتصبح جلية لا يشوبها لبس او اشتباه :
فقد جاء في معجم المعاني الجامع وقاموس المعجم الوسيط في بيان معنى القصبة :
•(( القصبة من البلاد : مَدِينتُها)).
قصبة الْمَدِينَةِ : مَجْمُوعَةٌ سَكَنِيَّةٌ فِي حَيٍّ مِنْ أَحْيَائِهَا يُحِيطُ بِهَا سُورٌ .(( 32))
وجاء في لسان العرب :
وقَصَبةُ البَلد : مَدينَتُه ؛ وقيل : مُعْظَمُه .
وقَصَبة السَّوادِ : مَدينتُها .
والقَصَبَةُ : جَوْفُ الـحِصْن ، يُبْنى فيه بناءٌ ، هو أَوسَطُه .
وقَصَبةُ البلاد : مَدينَتُها .
والقَصَبة : القَرية .
وقَصَبةُ القَرية : وسَطُها. ((33))
وجاء في تاج العروس :
ومن المَجَاز : القَصْبَة بفتح فسُكُون كذا هو مضبوطاً في نسختنا : البِئرُ الحَدِيثَةُ الحَفْرِ ويقال : بِئْرُ مستقيمةُ القَصبةِ . القَصبَة : القَصْرُ أَوْ جَوْفه . يقال : كنت في قَصبَةِ البلدِ والقَصر والحِصْن أي : في جوفه . القَصبَةُ من البَلَدِ : المَدِينة أَوْ لا تُسَكَّنُ قَصَبُ الأَمصار : مُعْظَمُ المُدُنِ وقَصبةُ السَّوَادِ : مَدِينَتُها . والقَصبَةُ : جَوْفُ الحِصْنِ يُبْنَى فيه بناءُ أَوْسَطُه . وقَصبةُ البِلاد : مدينَتُها . القَصبَة : القَرْيَةُ . وقَصبَةُ القَرْيةِ : وَسَطُهَا كذا في لسان العرب .
والقَصَبةُ : بالِعَراقِ وهي واسِطُ القَصَب لأَنَّها كانت قبلَ بنائِهَا قَصَباً وإِليها نُسِبَ أَبو حنيفةَ محمَّدُ بْنُ حَنِيفَة بْنِ ماهانَ . سكن بغْدَادَ ويقالُ له أَيضاً : الواسِطِي.((34))
وجاء في الصحاح و مختار الصحاح
وقصبة السواد مدينتها .((35))
معنى الرساتيق في اللغة العربية :
جاء في تاج العروس ولسان العرب :
الرُّسْتاقُ بالضَّمِّ : الرُّزْداقُ نَقَلَه اللِّحيانِيُ فارسيٌّ مُعرَّبٌ أَلحَقُوه بِقُرطاسٍ والجَمع : الرّساتِيقُ وهو السَّوادُ وقالَ ابنُ مَيّادَةَ :
تَقُولُ خَوْدٌ ذات طَرْفٍ بَرّاقْ ... هَلاّ اشْترَيْتَ حِنْطَةً بالرُّستاقْ . ((36))
وجاء في مختار الصحاح :
الرُّسْتَاقُ فارسي معرب ويقال رُسْداقٌ أيضا وهو السواد والجمع الرَّسَاتِيقُ .((37))
وجاء في قاموس المعجم الوسيط نقلا عن كتاب مصطلحات فقهية:
الرساتيق :
• مفردها رستاق ، وهي المواضع التي فيها زرع وقرى أو بيوت مجتمعة. ((38))
وجاء في منتخب الصحاح :
الرُسْتاقُ فارسيّ معرّب، ألحقوه بِقرْطاسٍ.
ويقال: رُزْداقٌ ورُسْداقٌ، والجمع، الرَساتيقُ، وهي السَواد((39)).
وجاء في المصباح المنير :
الرُّسْتَاقُ مُعَرَّبٌ وَيُسْتَعْمَلُ فِي النَّاحِيَةِ الَّتِي هِيَ طَرَفُ الْإِقْلِيمِ وَالرُّزْدَاقُ بِالزَّايِ وَالدَّالِ مِثْلُهُ وَالْجَمْعُ رَسَاتِيقُ وَرَزَادِيقُ قَالَ ابْنُ فَارِسٍ الرَّزْدَقُ السَّطْرُ مِنْ النَّخْلِ وَالصَّفُّ مِنْ النَّاسِ وَمِنْهُ الرُّزْدَاقُ وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُ عَرَبِيُّ وَقَالَ بَعْضُهُمْ الرُّسْتَاقُ مُوَلَّدٌ وَصَوَابُهُ رُزْدَاقٌ . ((40))
معنى كلمة الفسطاط في اللغة العربية :
جاء في لسان العرب :
التهذيب : والفُسْطاط مجتَمع أَهل الكُورة حَوالَيْ مسجد جماعتهم .
يقال : هؤلاء أَهل الفُسْطاط .
وفي الحديث : عليكم بالجماعة فإِنّ يَدَ اللّه على الفُسْطاطِ ، هو بالضم والكسر ، يريد المدينة التي فيها مجتمَع الناس ، وكلُّ مدينة فُسْطاط ؛ ومنه قيل لمدينة مِصر التي بناها عمرو بن العاص : الفُسْطاط .
وقال الشعبي في العبد الآبق : إِذا أُخِذ في الفُسْطاط ففيه عشرة دراهِم ، وإِذا أُخذ خارج الفُسْطاط ففيه أَربعون .
قال الزمخشري : الفُسْطاط ضرْب من الأَبنية في السفَر دون السُّرادق وبه سُميت المدينة . ويقال لمِصر والبصرة : الفُسْطاط. ((41))
معنى كلمة الكورة في اللغة العربية :
جاء في معجم اللغة العربية المعاصرة :
كورة مفرد : ج كورات وكور : 1 - مقاطعة ريفية . 2 - بقعة تجتمع فيها قرى ومحال .((42))
وجاء في المعجم الوسيط :
الكُورَةُ: الصُّقْع.
و- البُقعةُ التي يجتمع فيها قُرَى وَمَحَالٌّ.
والجمع: كُوَرُ .((43))
وجاء في المعجم الغني :
كُورَةٌ- الجمع: كُوَرٌ. [كور]: الْمَدِينَةُ وَكُلُّ بُقْعَةٍ تَجْتَمِعُ فِيهَا الْمَسَاكِنُ وَالقُرَى، كَمَا تُطْلَقُ عَلَى الْمُقَاطَعَةِ الرِّيفِيَّةِ .((44))
وجاء في المعجم الرائد :
كورة :
1- مدينة .
2- بقعة تجتمع فيها المساكن والقرى . ((45))
ضم هذا الرأي الكثير من التعقيدات والتحديدات الجغرافية المستخدمة قديما في التعريف بالأماكن والمواطن .
إلا أنني ومن خلال تتبعي لمصادر التاريخ القديم ومراجعه , تعرفت على حقيقة مفادها : ان المسلمين في بداية عصرهم ومع اتساع الفتوحات كانوا يقسمون المناطق الكبيرة او الدول الى أجناد : وهي مناطق ادارية تعادل المقاطعات البيزنطية آنذاك , وكانوا يقسمون كل جند إلى كُوَر (مفردها “كورة” ) ؛ وكانوا يقسمون كل كورة إلى رستاقات (مفردها رُستاق)، وهناك أيضا كلمة كانوا يستخدمونها هي الإقليم ؛ ومعنى الإقليم يختلف حسب كل كاتب فأحيانا يكون أكبر من الكورة وأحيانا أصغر منها. وبالنسبة لمراكز المناطق فكانوا أحيانا يسمونها بالقصبات (مفردها قَصَبة). هذه المعلومات مهمة لمن يقرأ في معجم البلدان وغيره من الكتب القديمة... ؛ فالنبط وفقا لهذا الرأي هم الناس الذين يستوطنون السواد ؛ وفسر السواد تارة بأنه ما يحيط بالكوفة من قرى وأرياف ومدن ومقاطعات وبطائح ومحال وتجمعات بشرية , وفسر تارة أخرى بأنه سواد الكوفة والبصرة أي ما يحيط بهما , وذهب البعض إلى إن السواد : هو سواد العراق أي كافة مقاطعاته الريفية ومدنه ومحاله وأراضيه وبطائحه ومراعيه الخضراء وتجمعاته البشرية الواقعة على الأرض الرسوبية على ضفاف دجلة والفرات .
واسم السواد أو ارض السواد ، يعد من أقدم الأسماء العربية التـي تطلق على الأرض الرسوبية على ضفاف دجلة والفرات . وقد أطلق عليها هذا الاسم كما يبدو للعين من التفاوت بينها وبين صحراء العـرب القاحلة . وكلمة (السواد) أذا سبقت اسم مدينة من المدن كان معناه الحقول المزروعة على نطاق واسـع في أراضيها التي تروى ريا منتظمـا ؛ كسواد الكوفة أو سواد البصرة , و (السواد) في أكثر معاجم اللغة جاء بمعنى (الخضرة) ، والخضرة إذا اشتدت ضربت إلى السواد من كثرة الري من الماء . والسواد هو من ارض العراق إذ أطلق لما بين الكوفة والبصرة وما حولها من القرى والرساتيق سمي سوادا لسواده بالزرع والأشجار ولكثرة قراه وأريافه لأنه حين تاخم جزيرة العرب التي يقل الزرع فيها والشجر كانوا قد خرجوا من أرضهم إليه ـ أي إلى السواد ـ ظهرت لهم خضرة الزرع والأشجار بحيث يراها الرائي من بعيد كأنها كتلة سوداء من شدة الاخضرار، ولهـــذا سموا خضرة العراق سـوادا .((46)).
وهذا الرأي وسع من دائرة النبط الجغرافية والبشرية .
خامسا : يذهب هذا الرأي إلى إن النبط هم سكان العراق وأربابه ؛ هذا الرأي يعطي مساحة كبيرة وعظيمة للنبط فكل من ولد على ارض العراق في أي قرية أو كورة أو مدينة أو بطيحة أو جبل أو سهل أو وادي أو على ضفاف نهر فهو نبطي أي عراقي أصيل ؛ ومن المعلوم تاريخيا إن العراق في مجده التليد وعزه الغابر كان يضم أراضي شاسعة جدا تبدأ حدودها من تركيا إلى البحرين ومن بلاد عيلام إلى أطراف صحراء الجزيرة العربية ؛ لذلك قالت العرب إن أهل البحرين نبط استعربوا ؛ ومن خلال هذا الرأي نتعرف على ان النبط ليسوا فقط سكان العراق ومواطنيه بل أربابه وأصحابه وملوكه وأهله ومعمريه وعماله وفلاحيه وحرفييه , ومنه نتعرف أيضا على حجم التكتلات والمجاميع البشرية الكبيرة التي كانت تسكن فيه ؛ فكل من سكن العراق آنذاك فهو نبطي أي عراقي أصيل .
سادسا : هذا الرأي يذهب الى ان النبط يسكنون المدن والمحال كما يسكنون البطائح والأرياف وضفاف الأنهار ؛ . ومنه الحَدِيثُ : لا تَنَبَّطُوا في المَدائن أَيْ لا تَشَبَّهُوا بالنَّبَطِ في سُكْنَاهَا واتّخاذِ العَقارِ والمِلْكِ ؛ من هذا الرأي نستنج إن النبط هم عبارة عن مجاميع بشرية مختلفة وأعراق متعددة فمنهم من يسكن الجبل ,ومنهم من يستوطن البطائح - الاهوار- , ومنهم من يسكن المدن , ومنهم من يسكن بالقرب من ضفاف الأنهار ... وقد يكونوا لسلالة واحدة أو عرق واحد ولغة واحدة إلا أنهم تفرقوا في أنحاء البلاد طلبا للعيش كلا بحسبه وتبعا للظروف المتقلبة التي مرت بالعراق على طول التاريخ .
سابعا : هذا الرأي يذهب إلى إن النبط هم الناس الذين يسكنون بين الشام والعراق ويقصدون بالشام هنا الأردن ؛ أي يقصدون مملكة الأنباط في البتراء إلا إن أنباط الاردن يختلفون عن نبط العراق , جمعتهم التسمية فقط وسوف نبين ذلك لاحقا ؛ نعم هنالك روابط قوية بين سكان سوريا والعراق فقد امتدت الإمبراطوريات العراقية الى العمق السوري الحالي .
مما مر عليكم نستنج ان القدر المتيقن أو المعنى الأخص من حقيقة النبط هم سكان البطائح - الاهوار- ؛ وان الرأي الأوسع والأعم يشمل كل سكان العراق بمختلف أعراقهم وأجناسهم وطوائفهم آنذاك .
واتضح لي من خلال تتبع النصوص واستقراء الاستعمالات ؛ إن لفظ (( النبط )) تعددت دلالاته بعد الفتح العربي الإسلامي واختلف المراد منه ؛ عما كان قبل الفتح , إذ كان يعني هذا اللفظ جنسا أو جيلا من الناس يسكن العراق فهو اسم علم معروف كباقي أسماء الأعلام عند العرب قبل الفتح , إلا انه بعد الفتح ازداد غموضا وتعقيدا واختلفت عبارات اللغويين والإخباريين في تحديد معناه بصورة علمية دقيقة ولم يتوصلوا إلى تعريفا جامعا مانعا للنبط كما مر عليكم آنفا ؛ إذ اكتفى البعض بذكر محل سكناهم , ولم ينظر إلى أصل عرقهم , بينما ذهب البعض الآخر إلى ذكر ملوكهم فحسب كما سيأتي لاحقا ... .
هذا ما جادت به قريحة اللغويين ؛ ولنا معهم عودة في البحوث اللاحقة .