مما نسب الى النبي محمد قوله : ((أبخل الناس ، الذي يبخل بالسلام ... ))
المجاملة العامة والمعقولة والمعتدلة تعد عادة من عادات السلوك الحضاري , وتكشف عن مدى ثقافة الشخص ؛ وسلامته من الامراض والعقد النفسية احيانا ؛ وهي من اروع صور التعامل الانساني الراقي ؛ وتعد المجاملة تقليداً اجتماعياً إيجابياً ؛ لتحسين العلاقة بين الناس ، فهي تقوم على طلاقة الوجه ولين الكلام والمشاعر الانسانية والاهتمام بالشخص المقابل ورفده بالشعور الايجابي والرعاية ، ولعل السلام مشتق من السلام والامان والاطمئنان , فعندما تلقي التحية والسلام على الانسان الاخر ؛ تشعره بالأمان والطمأنينة والقبول ... .
ويؤكد خبراء العلاقات الاجتماعية والأسرية أن المجاملة التي تتمثل في ابتسامة رقيقة وكلمات لطيفة وجميلة وأخلاق عالية، تلعب دورا كبيرا في توطيد وتقوية العلاقات بين البشر، ويحذرون في نفس الوقت من الخلط بين المجاملة والنفاق أو الكذب، إذ هناك خيط رفيع يفصل بينهما.
وأوضحوا أن الشخص المجامل، حتى وإن اتصف بصفة الذكاء الاجتماعي، فهو قد يقع دون قصد في مربع الكذب أو المبالغة مما ينعكس سلبيا على صورته أمام الآخرين، لافتين إلى أن المجاملة تقوم بشكل أساسي على استخدام عبارات رقيقة وقصيرة ذات تأثير سحري على الطرف الآخر، لكنها تحتاج إلى حرص شديد في اختيار العبارات.(1)
وقد حثت الاديان ولاسيما الاسلام وكذلك التراث العراقي والعربي بل والعالمي على افشاء السلام والقاء التحية ومقابلة الناس بوجه بشوش ؛ ومشاركتهم في افراحهم واحزانهم , بل عده البعض من المرؤة .
وقد اعتاد العراقيون والمجتمع العراقي ومنذ القدم على الالتزام بمجموعة من القيم الاجتماعية والاخلاقية و التي منها ؛ تكوين العلاقات الاجتماعية العامة والاهتمام بها , ومراعاة الجوار والعشرة والصداقة ... الخ .
ومما لا شك فيه ان هذه القيم الاخلاقية والمجاملات الاجتماعية تسهم في الحفاظ على حد معين من التماسك الاجتماعي في السراء والضراء بين الناس ؛ وعندما تقل هذه المجاملات تتفكك العلاقات وقد تنتهي نهائيا .
ومهما حاول الشخص اخفاء مشاعره فأنها تظهر للآخرين ؛ فالمشاعر القلبية لا يستطيع الإنسان أن يتحكم بها ، أي أن يمنع ظهورها أو يأمر نفسه بظهورها متى ما اراد ، فهي وليدة اللحظة والموقف وصاحبة سطوة على القلب، كالغضب والحب والكره والغيرة والإعجاب والحزن والألم والقهر والخوف ... الخ .
وعليه من السهل جدا ان نتعرف على الاصدقاء الاوفياء والاصحاب النبلاء و( المعارف ) الكرام ؛ ونميزهم عن الخبثاء واللئام والحاقدين والحاسدين والاصدقاء المزيفين ؛ وذلك من خلال مشاعرهم ومواقفهم واحاسيسهم وكلامهم وفلتات لسانهم وتقلب سحنات وجوههم وتغير مزاجهم ومناقضة اقوالهم لأفعالهم ... .
فالصديق والصاحب والزميل والقريب الذي لا يكلف نفسه القاء السلام عليك او رده بأحسن منه , او مشاركة منشور لك ( بوست ) او الاعجاب به ( لايك ) او التعليق عليه (comment ) ... ؛ والذي يكتفي بالمراقبة كالعدو المتوثب , او الذي يحزن ان اصابك فرح ويفرح ان ابتليت بداء او بلاء ؛ يعتبر صديقا مزيفا وصاحبا حاقدا وزميلا حاسدا ... الخ ؛ وهو يمنع نفسه من المبادرة الخيرة والانسانية حتى لا يفرح صديقه او يستفيد صاحبه ولو معنويا ... , ويركز جهده على ذاته فقط ويهمل الاخرين ؛ لأنه مريض بالحسد والانانية والنرجسية ؛ الا انه يحاول اقناع نفسه للهروب من وخزة الضمير و محاسبة الوجدان ؛ بأنه اعلى قيمة من الاخرين او ان منصبه لا يسمح له بالمجاملات العامة والمواقف الانسانية مع الاصدقاء والاصحاب والاقرباء والزملاء , او بأن الاخرين لا يستحقون الدعم المعنوي , او لانهم مختلفون معه في بعض القضايا والصفات والامور والآراء ... ؛ بينما الحقيقة تكمن في انه مصاب بداء الحسد والحقد والنرجسية والانانية المفرطة والتكبر الزائف والتعصب وجمود التفكير وهشاشة الايدولوجية ... ؛ فالحاسد يعتقد بأن الآخرين مجرد كائنات بلا معنى وجودهم عبء على الكرة الأرضية، يراهم ممتلئين بالغباء والعلل، لا يقدمون ولن يقدموا شيئا ذا معنى، فهو يحوي الانتقاص من ذوات الآخرين والاستخفاف بهم وعدم احترامهم، وجود نعمة لديهم تثير الإعجاب عند الحاسد يُضعف ويُشكّك بقوة هذه الاعتقادات لديه مما يجعله يشعر بالتهديد فيلجأ للتعبير عن هذا الشعور بأفعال تزيل النعم عنهم ... ؛ والتي منها انتقاصهم والتقليل من شأنهم وعدم الاهتمام بأفراحهم ونجاحاتهم وانجازاتهم .
هذا الصديق المزيف والصاحب الحاسد بقدر ما يتشدد معك ويصعب الامور ويبخل عليك ب ( لايك ) ؛ تجده كريما الى حد الاسراف مع الغرباء والاخرين , اذ تراه يعلق على منشور ( بوست ) فلان , ويعجب ( بفيديو ) علان , ويضع الإعجابات ( اللايكات ) على منشورات كل من هب ودب من النساء والصبيان والاطفال الا انت ؛ لأنه قد يرى نقصه من خلالك .
نعم هنالك استثناءات فالبعض يرى بالإطراء الزائد والمجاملات نفاق اجتماعي ؛ الا ان الحقيقة والواقع غير ذلك ؛ فالنفاق الاجتماعي شيء والمجاملات الانسانية المعتدلة شيء اخر بل ومختلف تماما ... ؛ والبعض يرى في المجاملة بأنها تنتهك معيار التواضع .
ولعل الاغلب يتبع مبدأ التعامل بالمثل ؛ وقد ورد عن الامام علي ما يؤكد ذلك , اذ قال : ((اصحب الناس بأي خلق شئت يصحبوك بمثله )) (2)
فالعلاقات الاجتماعية تعتبر كالدين او المقايضة ؛ فعندما تكرمني اكرمك والعكس صحيح ايضا , فليس من المعقول ان ينتظر البخيل كرما من صديقه ؛ او يطلب الاناني المتكبر و الجلف القاسي الاهتمام والرعاية من قريبه ... , وعندما تضع لمنشوري ( البوست ) اعجاب ( لايك ) افعل معك نفس الشيء ... وهكذا ؛ إذ يقاس اهتمام الإنسان بالطرف الاخر بما يقدمه له من وقت و مشاعر تضامن او مواساة او تشجيع او عطف او محبة او... الخ .
وهذا امر منطقي جدا، فإذا ابتسمت لشخص ما سوف يبادلك ابتسامتك واذا نظرت اليه شزرا سوف يبادلك نفس العداء... يتم هذا بشكل تلقائي لان هذه ( الكودات ) مبرمجة في لاوعي كل منا، فالطفل الصغير تلتقط أحاسيسه مشاعر الود والمحبة ممن يحيطون به وقد يبادلك بابتساماته الرائعة كلما شعر بمحبتك و قد يبكي اذا ما التقط منه اي شيء بشكل من أشكال العدوانية ... ؛ من هنا يكون التعامل بالمثل شيء طبيعي ومنطقي دون الدخول في أية حذلقة خطابية لا تتناسب مع الافعال ... ؛فالصداقة هي بالتأكيد مشاعر صادقة وتبادل للدعم والخدمات عند الضرورة، وإذا ما غاب الصدق انطفأت شعلة الصداقة، فالزيف هو المنجل الذي يجتث أغصان شجرة الصداقة من جذورها ... .
نعم هناك بالتأكيد أناس تغلب عليهم الطيبة، ويتناسون الأفعال السيئة لبعض معارفهم او أصدقائهم ولا يطبقون مبدأ المعاملة بالمثل لأنهم يأبون على أنفسهم السقوط في سلوكيات لا تتناسب ومستواهم الأخلاقي... لكن دوام الحال من المحال،، فالإنسان الطيب ايضا قد تؤدي به هذه السلوكيات المكررة الى حسم الأمر كي لا يسقط في علاقات مسمومة تنثر الطاقة السلبية حواليها ... ؛ فمن يتجاهل معارفه او اصدقاءه عندما يأتون لمدينته كيف يطمع في ان يحظى باهتمام واستضافة من تجاهلهم سابقا ...؟؟!!
نعم الحياة اخذ وعطاء، هذا مبدأ كوني تنثره طبيعة الأشياء كلها... ؛ والكائنات كلها ... ؛ اذا لم تتلق الأرض مطرا وحرثا و زراعة ... ؛ لن تنبت زرعا او خضارا او فواكه ؛ اسق الشجرة كي تثمر... ؛ وبنفس المنطق اسق علاقاتك محبة واهتماما كي تدوم وتبقى . (3)
وابخل الناس من بخل بالمودة والمحبة والسلام والمجاملة والانسانية والرحمة والطيبة والتسامح ... ؛ وقد صدق الحسن بن علي عندما قال : ((البخل جامع المساوئ والعيوب، وقاطع المودات من القلوب )) . (4)
.......................................................
- 1المجاملة ضرورة اجتماعية تفسدها المبالغة / رسالة الجامعة .
- 2شرح نهج البلاغة - ابن أبي الحديد - ج ٢٠ - الصفحة ٣٠٩.
- 3أهمية المجاملات الاجتماعية / عائشة التاج / بتصرف .
- 4حياة الإمام الحسن بن علي عليهما السلام دراسة وتحليل المؤلف : باقر شريف القرشي الجزء : 1 صفحة : 319.