ن

طالبة ، طب الاسكندرية

مدة القراءة: 4 دقائق

معًا ؟ - قصة قصيرة-.



" ثم ضحك بشدة متذكرًا ذلك اليوم الذي قررا فيه الذهاب لإحدى المحميات الطبيعية ، تلك الأماكن النائية التى يمكنك أن ترى فيها السماء كما يجب أن تكون . قبةٌ سماويةٌ حقيقة ، بعد أن تعبت عيناك من غيوم المدن و تلوثها الضوئي الذي لا يجعلك حتى ترى البدر ليلة تمامه .

تجربةٌ مثيرة خاضاها سَوِيًّا . ليلتين في صحراء معزولة عن العالم المتطور -المزعوم- . تذكر كيف كانا يحافظا علي الماء بدرجة لم يفعلوها مع راتبيهما الضئيل .

و بذكر ذلك الراتب تلاشت ضحكته فجأة ، فاعتدل في جلسته و أشاح ببصره بعيدًا عنها ثم شبك أصابعه سَوِيًّا و استجمع قواه لينظر إليها .

و كما توقع أن يراها ، معتدلةٌ مثله في جلستها ، و قد عقدت ساعديها أمام صدرها . تلاقت عيناهما فقالت : " قل ما عندك يا عزيزي ، ماذا هناك ؟ " .

شعر بالبرد فجأة ! . أعد نفسه كثيرًا لهذا الحديث و لكنه يجفل أمامها . لا خوفًا منها بل خوفًا عليها من كلامه . يقسم في نفسه أنّه لو حدثها بأمر عقده النية علي الزواج بأخرى لكان أسهل عليه من ذلك الأمر .

تنهد ، و استجمع قواه مرة أخري و قال أخيرًا : " عديني أن تتقبلي قولي بهدوء و امنحيه فرصةً لتتم مناقشته " .

أومأت برأسها أي أعدك .

فقال " حسنٌ ، جاءتني فرصةٌ مناسبةٌ للسفر للخارج .. " .توقف عن الكلام و نظر إلي عينيها . ثانية ، ثانيتين ، ثلاث ... عشر ثوان يحدق في عينيها إلي أن تنهدت و قالت بهدوء : " أكمل ، أخبرني بالتفاصيل ! " .

أخبرها بكل شئٍ ، متى وجدها و كيف ، أخبرها بظروف العمل هناك و أسهب في ذكر مميزات تلك البلدة غير البعيدة ، أخبرها بكل شئ و هو يعلم أنها لا تسمعه ! .

يعلم جيدًا كم تكره ذكر السفر ، و يذكر جيدًا عهده لها في بداية زواجهما حين تحدثا في هذا الموضوع .

شعر بإضطرابها فتوقف عن الكلام و قام من مكانه ليجلس بجوارها ، ضمها إليه بهدوء ، قبل رأسها و ربت علي ظهرها قائلا بهدوء : " أعلم أنكِ لا تُحبين هذا الأمر ، و أعلم أننا تعاهدنا أن يكون السفر هو خيارنا الأخير في العيش ، و أنتِ تعلمين جيدًا أننا استنفذنا كل شئ يمكننا فعله . لم يبقْ سوى أن نعمل أربع و عشرين ساعةً في اليوم الواحد حتى نحظي بحياة كريمة ، حياة كريمة ماديًا نضحي من أجلها بأرواحنا ، أجسادٌ و أرواحٌ استنفذها العمل فلا تتلاقي إلا لمامًا ، فأي حياة هذه ، حبيبتي ! "

صمت مانحًا لها لحظات تهدأ فيها نفسها . أحس بأنفاسها المتسارعة تهدأ شيئا فشيئًا فرفع وجهها بكفيه لتتلاقي عيناهما قائلا : " حدثيني بما بكِ " .

قامت من مكانها ، تجولت في الغرفة ثم اتجهت عيناها لإحدي رفوف مكتبتها الصغيرة ، ذلك الرف الذي يحمل صور أسرتها ؛ توقفت عيناها لحظات علي صورة منهم فترقرقت في عينيها دمعة مسحتها مسرعة ثم قالت : " متى تتجهز للرحيل أنت أيضًا ؟ "

جفل لبرهة من سؤالها ثم وقف قائلا : " تعلمين جيدًا أني لن أرحل دونك. و ليس هذا ما انتظرت سماعه منكِ "

قالت و قد غلبها الضعف : " و لكنّك تعلم جيدًا رأيي في هذا الموضوع من قبل "

رد قائلا : " نعم أعلم ؛ و لذلك طلبت منك فرصةً للنقاش " .

نعم هو يعلم جيدًا لما تكره السفر ، لم تنبع كراهيتها من حبها لبلدها أو ولائها اللامنتهي ، هي بالفعل تحب بلدها ، و لكنها تكره الغربة و التفرق . فقدت أحبائها في السفر ، و ذاقت ذلك الإحساس البشع بالفراق المؤقت المخادع ؛ فهو لم يكن أبدًا مؤقتا . فالفراق هو الفراق و إن كان ساعة واحدة .

يعلم أيضًا عن تلك المخاوف التى تنتابها ؛ ماذا لو تركتني وحدي و سافرت ؟ ، ماذا عن أبنائنا؟ من هم ؟ أين سينشأوا ؟ هل يمكننا أن نربي طفلا ليصبح مسلمًا حقًّا في بلد غير مسلم ؟ ماذا عن مدارسهم و أصدقائهم ؟

و جذورهم ؟ هل سنقتصها من هنا للأبد ؟ أم بشكل مؤقت خادع أيضًا !

هو يعلم جيدًا بكل دوامات الأسئلة تلك التى تعصف بعقلها ، كم يودُ لو أمكنه أن يرسل نسيمًا رقيقًا في عقلها كي تهدأ عاصفته في هذا الأمر كما أمكنه في غيره . لا يمكنه ذلك . إنه يؤمن أنها محقة في أفكارها العاصفة تلك .

أعاده صوتها الدافئ لغرفتهما مرة أخري قائلة : " هل يمكنك أن تطمئنني ؟ " .

اقترب منها قائلا : " لو قلتِ لا ، فوالله لا تمس قدماي بلدًا لستِ فيها أبدًا ما حييت "

ضحكت ، فضحك . جميلةٌ هى ضحكتها حين تأمن خوفًا أقلقها قبلا ، جميلةٌ هي دومًا . جميلةٌ هي جنته في تلك الدنيا .

" أخبرتك عزيزتي أنها فرصة مناسبة ، بلدٌ مسلم عربي ، و أهله كأهلنا ، كبلدنا هذه و لا فرق سوى أنه يرحب بِنَا . دعوت الله كثيرًا أن يلهمني الصواب قبل أن أحدثك في هذا . أتعلمين ، و كأن الله لم يرزقنا أطفالًا حتى الآن حتى نستقر في مكانٍ يمكننا من تنشئة ذرية صالحة كما تعاهدنا قبلا . و كأن الله شعر بما يختلج في قلبينا من وهنٍ من هذه البلدة الظالم أهلها . و كأن الله أراد أن يبدل مكان السيئة الحسنة حتى يبلونا فيما عاهدناه ؛ أنفي به أم ننقض ! "

أجابته قائلة : " ربما هو ذلك ، أنجدد عهدنا سَوِيًّا ؟ " .

ضمها إليه هامسًا : " نعم ، و سنفي به سَوِيًّا أيضا، أينما كنّا " .

انتهت .

ن

نورهان الصّباغ

طالبة ، طب الاسكندرية

أهلاً بكم في مدونتي! أنا كاتب شغوف أشارككم أفكاري وتجربتي في الحياة من خلال تدوينات أسبوعية. أستكشف فيها التوازن بين القيم والمغريات التي نواجهها يومياً، وكيف يمكننا أن نعيش حياة مليئة بالمعنى والعمق. انضموا إلي في هذه الرحلة الأدبية!

انضم الى اكتب

منصة تدوين عربية تعتد مبدأ البساطة في التصميم و التدوين

التعليقات