لو أن سجنًا فيه مائة نزيل، ثم جيءَ بشخصٍ ظالم ودنيء في نفس الوقت، ليقررَّ لهم ما يأكلون، فجاء مجرمٌ وقرَّب مجموعة من المفسدين أمثاله وكونوا لجنة لتقرير مصير أكل السجناء لكن بطريقة ممزوجة بالذكاء والخُبْث، عند ذلك باشرت اللجنة أعمالها لتَخْرُج بحلٍ لمسألة أكل السجناء.

معلوم أن الأكل ينقسم إلى أقسام، مثلا هناك مأكولات نباتية ولحوم، فتمَّ مبدئيا استبعاد اللحوم، كما أن النباتات أنواع فمنها الخضروات والفواكه والبقوليات والحبوب وغيرها، فاختاروا الفواكه واستبعدوا ما عداها، بعد ذلك برزت مشكلة، فالفواكه أنواع كثيرة أيضا، فقررت اللجنة الموقرة اختيار نوع واحد فقط من الفاكهة، وبعد شدٍّ وجذب وقع الاختيار على فاكهة واحدة فقط.

وهكذا أنجزت اللجنة الظالمة جزء من المهمة اللعينة، وبقي جزء مهم وهو إعطاء اختيارهم الشرعية وإِلْباسِه لباس الحق والعدل أو الشرعية كما يقال، عند ذلك ذهبوا إلى السجناء وقالوا لهم سنعرِض عليكم نوع الأكل الذي سيُقدم لكم وما عليكم إلَّا الاختيار عن طريق التصويت النزيه، وقبل التصويت قاموا بحملة إعلامية تذكر فوائد الفاكهة المختارة، والخسارة التي ستقع على السجين إذا لم يصوِّت لصالح هذه الفاكهة.

ومع الحملة المكثفة، والدعاية القوية، والميزات الموعودة في حال تم التصويت بنعم، إلا أن السجناء -وللأسف- انقسموا إلى عدة فئات، منهم من عارض التصويت جملة وتفصيلًا، والبعض الآخر صوَّت لكن ضد هذا القرار، ومجموعة وهم الأكثر صوتوا بـ (نعم).

فرحت اللجنة بهذه النتيجة وكذلك فرح أسيادهم الذين دعموهم ماديًا ومعنويا وإعلاميًا، وهكذا بدأ التنفيذ، وأصبح السجناء يُطعَمون كل يوم وفي كل وجبة من هذه الفاكهة التي اختارتها اللجنة الأثيمة المأجورة أو في الأصح اختارها أسيادهم.

وفجأة وفي يوم من الأيام جاء أحد الصالحين ليزور السجن وعلم بهذه الجريمة، فما كان منه إلا أن ذهب لرئيس اللجنة وقال له: ماذا تفعلون؟ ولماذا تحْرِمون السجناء من جميع أنواع الأطعمة إلا هذا النوع فقط؟

فرد عليه كبير اللجنة الإجرامية أن هذا هو اختيار السجناء أنفسهم.

 فتعجب الزائر وقال: هل كان هذه اختيار السجناء كلهم؟

 فقال الرئيس: لا، ولكن اختيار الأغلبية.

 فقال الزائر اختيار أكثرهم ثم فرضتموه على الكل! ما هذا الظلم!

ثم إنَّ هذا المصلح ذهب وسأل السجناء ليتأكد من كلام كبير المجرمين، فقال له السجناء: إن هؤلاء الظلمة قدموا لنا خيارا واحدًا فقط هم اختاروه، ثم ذكروا لنا فوائده ومضار التصويت ضده، فصوت الأغلبية بـ (نعم).

إن المثال السابق ليس من نسج الخيال وأحلام اليقظة، ولكنه يشبه واقعًا عاشته وتعيشه مجتمعات المسلمين، لأن المعلوم أن العلمانية وما يتبعها من ديمقراطية هي دخليه على المسلمين، وتم إقصاء شريعة العدل الإلهية بطريقة مشابهة لما حصل في المثال السابق.

 فجاء كهنة العلمانية والديمقراطية وأذنابهم، فنظروا في أنواع الحكم، فوجدوا أنها تنقسم إلى: نوع وضعي، ونوع يدعي أهله أنه من عند الإله، فأقصوا وبطريقة ظالمة جميع أنواع الحكم الديني، (مع العلم أن أنواع الحكم الديني كلها باطلة أو منسوخة ما عدا الإسلام) وهكذا بدأت الجريمة، ثم احتاروا، فأنواع الحكم الوضعي كثيرة ومتناقضة، فاختاروا الديمقراطية، والديمقراطية أنواع أيضا وبينها تناقض، والأدهى من ذلك أنها باطل لا دليل عليها، وتفتقر لمعيار موضوعي عليه دليل للصواب والخطأ والحق والباطل والعدل والظلم والأخلاقي واللاأخلاقي.

المهم اجتمع هؤلاء المفسدين بعد أقصوا خيارات كثيرة واختاروا خيارا واحدا فقط وبعد ذلك كتبوا دستورا، وما أعجبهم وضعوه، وما خالف أهوائهم أبعدوه وأقصوه (بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ) ثم خرجوا للمجتمع المسلم بدستور وضعي وضيع مليء بالباطل والتناقض والفساد، وأبرز عنوان لهذا الدستور الجاهلي أن كلمة الله فيه ليست هي العليا، وما فيه من حق قد سبق إليه الإسلام بقرون خلت.

بعد ذلك يأتي دور التضليل الإعلامي، والتشويه للحقِّ وأهلِه، وإلْباس الباطل ثوب الحق، فيما يسمونه بالدعاية الانتخابية، فتلصق بهذا الدستور الوضعي الوضيع هالات من القداسة، والأوصاف الكثير العجيبة بل والمتناقضة، فيقولون للناس مثلا إنكم بمجرد أن تصوتوا بـ (نعم) للدستور فسيتحقق لكم العدالة الاجتماعية، والمساواة والحرية بأنواعها بما فيها الحرية الشخصية والدينية، والرفاه الاقتصادي، ودولة المؤسسات والقانون، والقضاء على الفساد والمفسدين، والقضاء على الفقر، وامتصاص البطالة وتجفيف منابعها، والتعليم النوعي والمجاني من الحضانة إلى الدراسات العليا، واحتواء المواهب ودعمها وتنبيها وتشجيعها، والتوزيع العادل للثروة، والمساواة، والاحترام لكافة أفراد الشعب، والمحاسبة والرقابة أول بأول على الأموال والثروات، والتجارة الحرة، وجذب الاستثمارات وتشجيعها، وإدخال التقنية الزراعية، والتحول إلى مجتمع صناعي تكنولوجي، وتوفير الخدمات الأساسية من ماء وكهرباء واتصالات، والارتقاء بالقطاع الصحي وتطويره، تحسين المواصلات من برية وبحرية وجوية ولا ينسون أن يستدلوا على كلامهم بأن كل ما في الدول المتقدمة من تطور زراعي وصناعي وتقني وتفوق اقتصادي بسبب تمسكهم بالديمقراطية، وغيرها الكثير من المميزات التي تدخل في إطار الغش والخداع أو ما يسمونه هُم بـ (الدعاية الانتخابية) التي تنفق عليها أموال طائلة وجهود إعلامية جبارة، وهم -للأسف- غير ملزمين بتنفيذ هذه الوعود لأنها ببساطة وعود (انتخابية)، ولكن لا تُلْغى نتائج التصويت إذا لم يتحقق من هذا الهُراء شيء، فالتصويت ملزِم، والوعود فقاعية.

والحقيقة أن من يسمع هذه المزايا يجزم أن من أغبى الغباء ومن أسفه السفه عدم التصويت لهذا الدستور الذي سيحول البلاد إلى جنة على وجه الأرض، والواقع أنه لا يهم تنفيذ هذه الوعود فهي (وعود انتخابية ليس إلا) ولكنَّ المهم هو الحصول على أصوات أكثر لتمرير المخطط الإجرامي الخبيث، الذي شعاره الكاذب أن (الحكم للشعب)، وأن كلمة الله ليست هي العليا.

وبهذا يتم إقصاء شريعة العدل الإلهية واستبدالها بخرافات وقاذورات بشرية وضعية، ولكن ذلك حسب اختيار الشعب كما يزعمون، وهكذا تمت عملية الإقصاء بنجاح، فإذا ما تكلم مُصلِح أو شكى أحد من هذا العَفَن، اتهموه بأنه ضد إرادة الشعب، واختيار الأمة، وأن يريد فرض رأيه على الناس، وأنه متطرف وإقصائي بينما كهنة الديمقراطية من أشد الناس تطرفا وإقصاء للعدل وأهله والله المستعان.

والخلاصة أنه لا توجد دولة ديمقراطية واحدة فيها (كلمةُ الله هي العليا)، وكفى بهذا ضلال وفساد وخسران في الدنيا والآخرة.

مع العلم أنه لا تعارض بين حكم الله والتقدم في مجالات الحياة النافعة من صناعة وزراعة وتعليم ومخترعات وغيرها، ولذا يستحيل أن يكون تطبيق الشريعة الإسلامية مانع أو معرقل للتفوق في أي مجال نافع مهما كان وعند أي أحد كان، ومن زعم وجود ذلك فعليه بالبرهان والحجة.

وقبل الختام هنا تحديات عجِزَ وسيعجز كهنة العلمانية والديمقراطية عن الجواب عنها وهي:

  • هل الديمقراطية حق أم باطل؟ إذا كانت حق (هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ).
  • ما معيار الأخلاقي واللاأخلاقي في الديمقراطية؟ وما الدليل على صحة هذا المعيار إن وُجِد؟

(وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ)

 (فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)

(فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ)

اللهم طهِّر بلاد المسلمين من ظلمات وضلالات وقذارات العلمانية والديمقراطية والليبرالية والنسوية وأذنابهم، اللهم وأقرَّ عيون المسلين بتطبيق شرعك القويم.


[email protected]