د. علي بانافع
لا يمكن أن تغطي الشمس بغربال أو بأي شيء آخر، وكذلك الحضارة والحقيقة والتاريخ؛ فبغداد بناها أبو جعفر المنصور حفيد العباس رضي الله عنه عم النبي صلى الله عليه وسلم، وكانت أيامها الذهبية في عصر حفيد المنصور هارون الرشيد رحمهما الله، ولا يمكن أن نجلس لنقارن بين هارون الرشيد وبين حفيد عم النبي أبو طالب موسى الكاظم رحمهما الله الذي عاش زمن هارون الرشيد، فهذا خليفة كان مجد الأمة في وقته، وذلك رجل صالح، وكلاهما من آل الرسول صلى الله عليه وسلم، ويحاول بعضهم - كما يحلو له - أن يُنسي الناس أن هارون الرشيد من آل البيت ويقول ويل لمن ظلم آل البيت، ونقول إن كان هارون الرشيد ظلم آل البيت فهو ظلم بين آل البيت النبوي.
ونحن معاشر أهل السنة نحب آل البيت جميعهم، كما نحب مجدنا وتاريخنا وعزنا، نحب هارون الرشيد لأنه عصره عصر العزة والكرامة، عصر كان الغرب يخشى منّا ويحترمنا ويهابنا، وكانت بغداد عاصمة الدنيا بأسرها؛ فكيف يصح اليوم أن يشتم هارون الرشيد أو ينتقص أو يشوه تاريخنا!! إن من يفعل ذلك ليس له انتماء حقيقي لهذه الأمة ولن يدوم بقاءه طويلًا. ولقد عرف أهل العراق جميعًا مكانة هذا الخليفة وسموا أجمل شارع ببغداد منذ أكثر من 100 عام "شارع الرشيد". يوم أن كان بناة حضارة العراق يعرفون قيمة تاريخه العريق المجيد. ولا أقول إلا كما قال شاعر الحلة صفي الدين الحلي:
إنّ الزرازيرَ لمّا قامَ قائمُهـــــــا
تَوَهّمَتْ أنّها صارَتْ شَواهينا
مدينة الموصل التي نُكبت عدة مرات، وآخرها ما حلَّ في حادثة العبارة 2019م، والموصل المدينة الثانية بعد العاصمة بغداد، الموصل أم الربيعين والموصل الحدباء، تتميز هذه المدينة المعطاة بمواردها البشرية المتميزة، فهي أم المثقفين والعسكريين والعلماء، وعمقها الحضاري يضرب في أطناب التاريخ، ومع قامة ونخبة متميزة ألا وهو الدكتور عبد الجبار محمد شيت الجومرد 1909 - 1971م سياسي وطني عربي أديب ومؤرخ، فهو أول وزير خارجية عراقي بعد ثورة 14 تموز 1958م، والذي استقال بعد أشهر لانحراف مسيرة الثورة.
هذا العَلم العراقي رغم أنه خريج باريس لكن لم يُنسه ذلك عمقه العربي الإسلامي أن يؤلف سفرًا جليلًا من خير من كتب ودافع وأصل عن حقيقة هذا الخليفة العظيم هارون الرشيد، لا زلت أذكر هذا الكتاب بطبعته الصفراء القديمة منذ نشأت في بيت والدي رحمه الله في مجلد واحد، والذي كتبه مبكرًا سنة 1956م - 1377هـ لكي يعرف هؤلاء الرجال أن حضارة الإسلام ورجالاتها تعرضت لتشويه الحركات الشعوبية الحاقدة منذ القدم ليومنا هذا، ولابد من أن ينبري ثقاة وعاة ليذودوا عن حمى هذا الدين العظيم وهذا التاريخ التليد، تذكروا هؤلاء الرجال، وقارنوهم برجالات اليوم وأمس فلعل في هذا استنهاضا للهمم لأجيالنا الجديدة كي تُعيد للعراق وللأُمة ماضيها المشرق، وتذكروا هؤلاء وعرفوا أجيالنا بهم، وإنما نحن فروع لأصول عظيمة، لم يكتف هذا العَلم بالكتابة، بل إنه حميَّة على الخليفة العظيم المدفون في مدينة مشهد الإيرانية والذي يمر الشيعة هناك فيُهِينون قبره، أن يطلب من الرئيس العراقي الراحل آنذاك أحمد حسن البكر بأن ينقل رفاة هذا الخليفة إلى بغداد، فرفضت حكومة إيران. رحم الله الدكتور عبد الجبار الجومرد رحمة واسعة وأبدل العراق والأمة رجالاً مثله وخيرًا منه.
يقول عبد الجبار الجومرد: "رأى الرشيد وهو بالكوفة رؤيا أفزعته، وغمه ذلك، فدخل عليه جبريل بن بختيشوع طبيبه فقال: مالك يا أمير المؤمنين؟ فقال: رأيت كفا فيها تربة حمراء خرجت من تحت سريرى، وقائلا يقول: هذه تربة هارون‼ ولكن جبريل بن بختيشوع هون عليه أمرها، وقال هذه من أضغاث الأحلام، ومن حديث النفس، فتناسها يا أمير المؤمنين.
ولما سار الرشيد إلى خراسان عام 193هـ مر بطوس وهى اليوم من ضواحي من مدينة مشهد اعتلته العلة بها وذكر رؤياه فهاله ذلك وقال لجبريل: ويحك أما تذكر ما قصصته عليك من الرؤيا؟ فقال: بلى. فدعا مسرورًا الخادم وقال: ائتنى بشئ من تربة هذه الأرض، فجاءه بتربة حمراء في يده، فلما رآها قال: والله هذه الكف التي رأيت، والتربة التي كانت فيها. قال جبريل: فوالله ما أتت عليه ثلاث حتى توفى.
وقد أمر هارون الرشيد بحفر قبره قبل موته في الدار التي كان فيها، وهى دار حميد بن أبي غانم الطائى، فجعل ينظر إلى قبره وهو يقول: يا ابن آدم تصير إلى هذا، ثم أمر أن يقرؤوا القرآن في قبره، فقرؤوه حتى ختموه، وهو في محفة على شفير القبر، ولما حضرته الوفاة احتبى بملاءة، وجلس يقاسى سكرات الموت، فقال له بعض من حضر: لو اضطجعت كان أهون عليك، فضحك ضحكًا صحيحًا ثم قال: أما سمعت قول الشاعر:
وإنيَ مِن قومٍ كرامٍ يزيدُهــــم
شِماسًا وصبرًا شِدةُ الحَدَثانِ
وكان آخر ما قاله عندما حضره الموت: "اللهم أنفعنا بالإحسان، واغفر لنا الإساءة، يا من لا يموت، ارحم من يموت".
قال صاحب الخزانة عفا الله عنه بمنه وكرمه: "ذكر الدكتور سالم الآلوسي 2014م أن أحمد حسن البكر في بداية حكمه طالب إيران باسترجاع رفات هارون الرشيد، كونه رمزًا لبغداد في عصرها الذهبي، وذلك بدعوة وحث من عبد الجبار الجومرد وزير الخارجية العراقي السابق في عهد عبد الكريم قاسم، والذي كان مولعا بشخصية الرشيد ولكن إيران امتنعت، وبالمقابل طلبت استرجاع رفات الشيخ عبد القادر الجيلاني، كونه من مواليد كيلان في إيران وعندها طلب الرئيس من مصطفى جواد بيان الأمر، فأجاب مصطفى جواد: إن المصادر التي تذكر بأن الشيخ عبد القادر من مواليد كيلان في إيران، مصادر تعتمد رواية واحدة وتناقلتها بدون دراسة وتحقيق، أما الأصوب فهو من مواليد قرية تسمى "الجيل" قرب المدائن، ولا صحة لكونه من إيران أو أن جده اسمه جيلان، وهو ما أكده حسين علي محفوظ في مهرجان جلولاء الذي أقامه اتحاد المؤرخين العرب وكان الألوسي حاضرًا أيضًا سنة 1996م وفعلًا أبُلغت مملكة إيران بذلك ولكن بتدخل من دولة عربية أغلق الموضوع".