العديد من المثقفين والشخصيات البارزة في مجتمعنا يسعون إلى رفع سيرتهم الذاتية على إحدى المنصات الشهيرة للسير الشخصية وذلك لتسهيل الاطلاع عليها من قبل جمهورهم والمتابعين لهم، فمعظمهم يفضل رفع سيرته على منصة ويكيبيديا لما لها قيمة كبيرة على الإنترنت ولما تحمله من سير ذاتية لشخصيات بارزة من جميع أنحاء العالم. كما أنها تعتبر أحد أهم مصادر المعرفة الإلكترونية الحديثة. كان موضوع نشر مقال أو سيرة ذاتية على المنصة في السابق غايةً في السهولة وأن الويكيبيديا يستطيع أي إنسان في مختلف دول العالم أن يضيف سيرته أو معلومات عامة يراها إلى المنصة. ولكن في الآونة الأخيرة وجد العديد من مستخدمي هذه المنصة صعوبة في نشر سيرهم أو مقالاتهم وأن المشكلة ليست تقنية أو قلة معرفة بكيفية التعامل مع النشر على هذه المنصة بل بالصعوبات التي تواجههم من رفض طلبهم مراراً وذلك لعدم استيفائه لمعايير السير الشخصية أو سياسيات النشر على الموقع. فبدأ سؤالاً يتبادر إلى الذهن: هل الموسوعة الحرة (ويكيبيديا) أصبحت من الموسوعات المعرفية التي نثق بها؟ حيث أن في بدايات موقع ويكيبيديا لم تكن هناك شروطاً صارمة للنشر ولم يكن هناك رقابة على ما يتم إضافته في الموقع. وأذكر أن التعديل أو الإضافة يستطيع أياً كان القيام به دون مراجعة من قبل مدراء تحرير الموقع. ولذلك ظهرت العديد من المقالات المنشورة في هذا الموقع قليلة المصداقية والتي لا يعتد بها في الحصول على المعلومة الموثوقة. وأذكر أثناء دراستي الجامعية في أستراليا قبل تقريباً 8سنوات وإعدادي لعدد من البحوث كمتطلب لنيل درجة الماجستير لم يكن مقبولاً نهائياً استخدام الويكيبيديا كمرجع يستطيع الباحث الاعتماد عليه في توثيق بحثه. فهل هذه الفرضية ما زالت مستمرة إلى وقتنا الحالي أم تغيرت بحكم الأنظمة والمعايير التي تطبقها ويكيبيديا على مستخدميها ومحرريها؟. ولكي نجيب على هذا التساؤل علينا أولاً أن نتطرق إلى لمحة عن هذا الموقع الشهير.
الموسوعة الحرة (ويكيبيديا)
الموسوعة الحرة أو ما يطلق عليها اختصاراً «ويكيبيديا» حسب تعريف الموقع الرسمي لها أنها عبارة عن «مشروع تعاوني عبر الإنترنت لإنشاء موسوعة رقمية حرة ودقيقة ومتكاملة ومتنوعة ومحايدة، متعددة اللغات، تشغلها مؤسسة ويكيميديا، يستطيع الجميع المساهمة فيها». وحسب الموقع أيضاً أن الموسوعة تأسست في عام 2001م على يد رجل الأعمال الأمريكي جيمي ويلز. تشتمل الموسوعة حالياً على ما يقرب من 55 مليون مقالة في أكثر من 300 لغة منها ما يزيد عن مليون مقالة باللغة العربية 6 ملايين مقالة باللغة الإنجليزية. وتحتل اللغة العربية المرتبة السادسة عشر ضمن اللغات المتوفرة على الموسوعة، حيث يصل عدد المقالات التي بالعربية إلى أكثر من مليون مقال ويوجد على المنصة أكثر من 2 مليون مستخدم عربي من بينهم 26 إدارياً فقط بمعدل ستة آلاف مستخدم نشط شهرياً حتى كتابة هذا المقال. وتفيد الموسوعة أن إضافة أو تعديل المقالات لا تتطلب مؤهل معين وأنها متاحة لجميع مستخدمي الإنترنت ولذلك يوجد بها العديد من المحررين من مختلف الأعمار والخلفيات الثقافية.
ويكي في المجتمع العربي
اهتمت المجتمعات العربية في الآونة الأخيرة بتواجدها على الموسوعة الحرة عن طريق دعمها بالمقالات والدراسات المفتوحة المصدر. ففي مدينة دبي بالإمارات العربية المتحدة أقيم في شهر نوفمبر من عام 2022م مؤتمر «ويكي عربية» في نسخته السادسة تم خلاله اطلاق مبادرة «المليون ويكي» من دبي، لتعزيز المحتوى الرقمي المتوافر باللغة العربية وإثراء المصادر المفتوحة المتاحة للجمهور العربي في المنطقة والعالم، وذلك في مشروع مجتمعي مشترك تنظمه مجموعة مستخدمي «ويكيميديا الإمارات» بالتعاون مع مؤسسة «الإمارات للآداب»، وبدعم من «مبادرات محمد بن راشد آل مكتوم العالمية»، بهدف إضافة مليون مساهمة في المحتوى العربي ضمن مشاريع «ويكيميديا» المختلفة، في مقدمتها موسوعة «ويكيبيديا»، خلال ثلاث سنوات. كما لقي موقع ويكيبيديا اهتماماً واسعاً من بعض الدول العربية من بينها: سلطنة عمان التي أنشئت مبادرة «ويكي نساء عمانيات» لتوثيق سير العمانيات لإثراء المحتوى الرقمي. وفي شهر يونيو من عام 2020م، أطلق في الجزء الغربي من العالم العربي (المغرب، الجزائر، تونس، ليبيا وموريتاني) مبادرة «ويكي قصور» للتوثيق الرقمي الشامل للقرى التراثية المحصنة، أو ما يعرف محلياً باسم «القصور»، على الموسوعة الرقمية العالمية «ويكيبيديا» والذي يشهد شحاً في المحتوى الرقمي المنشور عن القصور المغاربية، ففي المغرب مثلاً لم تكن هناك قبل إنشاء المبادرة إلا 6 مقالات تتحدث عن هذه القرى.
ويكي في المجتمع السعودي
سعت المملكة العربية السعودية منذ بداية تواجد الشبكة العالمية على زيادة المحتوى العربي وبالأخص ما يتعلق بالسعودية وتاريخها وثقافتها وتراثها. فكان لزاماً إنشاء مبادرة تهتم بالمحتوى الرقمي السعودي، فتم في عام 6 /11/ 1430هـ الموافق 25/10/2009م إنشاء المركز السعودي للمحتوى الرقمي «رقمن» والذي يعد من المشاريع الوطنية المتميزة والفريدة من نوعها على مستوى المملكة العربية السعودية والوطن العربي. ويذكر موقع المركز الإلكتروني أنه: «يعنى بجانب مهم وحيوي في مجال حفظ ومعالجة المعلومات وعمليات التحويل الرقمي والأرشفة الرقمية وفقاً لآخر المستجدات والتطورات التقنية الحديثة». ويعتبر إثراء المحتوى الرقمي للتاريخ السعودي والعربي والإسلامي أحد أهم أهدافه التي يسعى لتحقيقها. ولاهتمامه بإثراء المحتوى الرقمي العربي والسعودي، قام المركز بإنشاء مشروع «ويكي دون» لزيادة المقالات التي باللغة العربية في الموسوعة الحرة «ويكيبيديا». وهو عبارة عن مبادرة تطوعية مُقدمة من المركز إلى دارة الملك عبد العزيز لإبراز تاريخ وحضارة المملكة العربية السعودية والعالمين العربي والإسلامي في هذه الموسوعة العالمية. وقد أسهم مشروع (ويكي دوّن) في إثراء المحتوى العربي بالموسوعة العالمية الحرة (ويكيبيديا) بـ 578 مقالة خلال المدة من 25 أبريل - 21 يونيو 2022م. هذه الإحصائية توضح حرص المملكة العربية السعودية على التواجد في هذه المنصات لما له قيمة كبيرة للتعريف بتاريخها وإرثها الثقافي والاجتماعي.
هل نثق في ويكي؟
وبعد هذا السرد للاهتمام الواسع من العالمين العربي والسعودي بإثراء المحتوى على موقع الموسوعة الحرة (ويكيبيديا) نأتي إلى السؤال الأهم: هل المقالات في ويكيبيديا ذ ات مضمونة وموثوق بها لمشاركة المعرفة أو الاقتباس منها كمرجع؟. ففي عام 2004م، ذكر فيل برادلي (وهو أحد أساتذة علم المعلومات والذي ألف كتاباً شهيراً في علم المعلومات وعنوانه: Internet Power Searching: The Advanced Manual) أنه لن يستخدم موقع ويكيبيديا ولن ينصح باستخدامه وذلك لافتقاره إلى السلطة وأن المنصة المفتوحة والتي يستطيع أي إنسان التحكم فيها هي مضيعة للوقت وليست بذات الثقة لندعم بها مصادرنا المطبوعة. كما أيدت دراسة أخرى أجرتها صحيفة المكتبات عام 2006م على مجموعة من أمناء المكتبة في الولايات المتحدة الأمريكية عن رأيهم حول موقع ويكيبيديا وجد أن نسبة كبيرة منهم يرون أن الآلية التي تعمل فيها موسوعة ويكيبيديا تجعلها موضعاً للشك في مصداقية محتوياتها ولكنها تحتوي على محتوى معلوماتي زاخر. في السنوات الأخيرة تغير هذا الرأي وأصبح العديد من علماء المعلومات والأكاديميين والمؤسسات المعنية بالمعلومات يبدون آراءً مختلفة عن السنوات الأولى من ظهور الويكيبيديا. ففي عام 2014م، نُشر استطلاعاً أجرته مؤسسة يوغوف المتخصصة بأبحاث الأسواق مفاده أن أكثر من 64% من مواطني المملكة المتحدة يثقون بالمعلومة المتوفرة على موقع ويكيبيديا أكثر من الصحف ووسائل الإعلام البريطانية الأخرى، حيث أن هيئة الإذاعة البريطانية احتلت المرتبة الثانية بعد موقع الموسوعة الحرة. يعود تغيير الرأي والإقبال على ويكيبيديا إلى السياسات التي اتخذتها الموسوعة في عملية النشر. ففي عام 2009م، قامت ويكيميديا المؤسسة المسؤولة عن موقع ويكيبيديا إلى إنشاء نظام حديث في النسخة العربية منها والذي يهدف إلى توثيق المقالات المنشورة عليه وسلامة المعلومة التي يتم إيصالها للمتلقي والمسمى: «بنظام المراجعات المعلمة»، حيث يوضع على المقالات علامة تبين أن المقال تمت مراجعته من قبل المحررين في ويكيبيديا وأن المعلومات المتوفرة فيه صحيحة. ووضعت المنصة في الآونة الأخيرة بنوداً لقياس موثوقية مقالاتها كدقة المعلومات المقدمة وتحديث مصادر طرف ثالث ذات سمعة جيدة كالاستشهادات. فلن تُقبل المعلومة التي ستضيفها إلا بعد التأكد منها من قبل محرري الموسوعة وبدون أن تضع مراجع أو استشهادات ذات مصداقية وموثوق بها فلن يتم قبول المقالة والإضافة التي قدمتها.
ولا زالت الموسوعة الحرة تعمل بشكل مستمر على أن تصبح وسيلة موثوقة من خلال عدد من السياسيات والأنظمة التي وضعها القائمين على المنصة لزيادة موثوقية مقالاتها وتقليل الشك في مصداقية ما تنشره. فالمقالات المتوفرة على منصة ويكيبيديا في الوقت الحالي تعتبر وسيلة لنقل ومشاركة المعرفة العامة التي لا يُبنى عليها في المجالات البحثية أو الأكاديمية. ففي الجانب الأكاديمي لا زال هناك توجس من استخدام ويكيبيديا في البحوث أو إعداد الأوراق العلمية وذلك لأن الموسوعات بشكل عام تعتبر مصدراً لبداية مشروع البحث ولكن لا يعتد بها كمصدر للبحوث ومن غير اللائق الاستشهاد بمواقع الإنترنت كمصدر للمعلومات إلا إذا كنت متيقناً أنه يدار بواسطة جهة موثوق بها كمؤسسة رسمية أو شخصية اعتبارية. وهذا حسب ما تطرق إليه موقع ويكيبيديا نفسه الذي ذكر هذه العبارة: «بشكل عام، من السيء استخدام الموسوعة للأبحاث الأكاديمية».
ويكيبيديا وموثوقية مشاركة المعرفة
هذه التدوينة كتبت باستخدام اكتب
منصة تدوين عربية تعتد مبدأ
البساطة
في التصميم و التدوين