قد ذكرنا في الحلقة الثانية من سلسلة ( الحركة الدينية المنكوسة ) اسباب هجرة او تغيير منفى السيد الخميني من تركيا الى العراق ؛ ولعل من أهم اسبابها : تصور نظام الشاه بان الهدوء وعدم وجود الرغبة في التدخل في الامور السياسية الذي كان يسود الحوزة العلمية في النجف الاشرف؛ ووضع النظام الحاكم في بغداد، كل ذلك سيمثل حواجز كبيرة تحدُّ من فعاليات السيد الخميني.
فقد عُرِفَ الرئيس عبد السلام محمد عارف بطائفيته العلنية إذ كان يسمي الشيعة روافض وعجماً، وجعل مبدأ النقاء العرقي والطائفي أساساً للتقرب إلى السلطة والمناصب الحكومية... ؛ وعمل كأسلافه – باستثناء عبد الكريم قاسم - من حكام الفئة الهجينة على الالتزام بمبدأ تعميم تمذهب الدولة كما هو حال الدولة السعودية الوهابية – مثلا - ... ؛ ويعد عارف رائد التمييز العرقي والعزل المذهبي والحقد الطائفي في العمل السياسي والحكومي بشكل صريح ، ولأول مرة يجري العمل بالهوية العرقية والطائفية علناً ؛ فكان يتكلم بالطائفية ويصرح بها دون مواربة وعلى رؤوس الاشهاد من بني جلدته وابناء الفئة الهجينة ... . (1)
ويذكر السيد هديب الحاج حمود، وزير الزراعة في حكومة عبدالكريم قاسم: " إن عبد السلام عارف ذكر لأحد الضباط الأحرار الموجودين معه في الفوج ليلة 14 تموز 1958، بأنهم سينفذون الثورة وهناك ثلاث جماعات يجب إستئصالها وهم : الأكراد، والمسيحيون والشيعة".(2)
وعن طائفية الرئيس عبدالسلام عارف، يقول الدكتور سعيد السامرائي : عرف الرئيس العراقي عبدالسلام عارف بالتطرف في طائفيته ضد الشيعة حيث كان لا يحتمل رؤية الشيعي حتى أنه قطع زيارته لشركة التأمين الوطنية يوماً (في عام 1965 أو 1966) لأنه وجد أن مدراءها ورؤساء أقسامها وشُعَبها هم إما من الشيعة أو المسيحيين والذين تبوأوا هذه المناصب بكفاءتهم في هذه المهنة (التأمين) التي لا تحتمل وضع غير الكفوء فيها ... , مثل هذا الرجل لا يمكن أن ينتظر منه إصلاح لأنه غارق بالطائفية إلى درجة لا يستطيع فيها أن يرى سبيلاً آخر ؛ هذا علاوة إلى جهله المركب عموماً.(3)
ويبدو أن الانقلاب الذي أطاح بعبد الكريم قاسم والذي رحبت به بعض الاوساط والعوائل الدينية الشيعية في النجف الاشرف والكاظمية بادئ الامر ، ووصول عبد السلام عارف للسلطة عام 1963 ، فتح بابا لم يغلق من الصدام مع المرجعية الشيعية ؛ فقد كشر الطرطور عارف عن انيابه الطائفية ، وهذا الامر اصبح واضحا للعيان وكثرت الاحتجاجات الجماهيرية والامتعاض والاستياء الشعبي من هذا الانقلاب الاسود ؛ قد شكل ضغطا شعبيا على المرجع الديني محسن الحكيم والذي تحدث خلال لقائه برئيس حكومة عارف ؛ طاهر يحيى عام 1964 , عن التمييز الطائفي والعنصري والمناطقي الذي تنتهجه الحكومة ؛ إذ تحدث الحكيم عن تمييز حكومي بين تكريت وعانة ، مقابل النجف والكوفة ، وأن «معاملة عبد القادر تنفذ ومعاملة عبد الحسين لا تنفذ ».
ومن الواضح ان العلاقات الايرانية العراقية وقتذاك مشوبة بالهشاشة والبرود ... ؛ علما ان التمردات الكردية الذي انبثقت أوارها منذ أواخر (1961) ؛ كانت بدعم إيراني مشهود للفصائل المسلحة الكردية في شمالي العراق تمويلاً وتسليحاً وتجهيزاً وتدريباً وإيواءاً ، والتي يفترض معها أن تضطر الحكومة الطائفية الهجينة لإدامة علاقاته الحسنة حيال دولة مناطة إليها مهمة “شرطي المنطقة والخليج” فتمتاز بالدبلوماسية الرقيقة والسياسة الهادئة المختلطة بالحذر لإتقاء المكائد والمصائب والإبتعاد عن الشرور والمعاضل التي قد تسبب بها رعونة الطرطور الطائفي عبد السلام عارف ... .
ومع كل ما نعرفه عن الطرطور عارف ؛ ادعى كتبة الفئة الهجينة وكتبت الاقلام الطائفية الصفراء مناقب ونسبتها للطرطور عبد السلام عارف ومنها هذه القصة العجيبة : (( حديث السيد صبحي عبدالحميد : خلال شهر نيسان1964 كنت متبوئاً منصب وزير الخارجية في وزارة “الفريق طاهر يحيى” الثانية ، وقتما قررت الدولة الإيرانية تعيين “سيد مهدي بيراسته” المقرب من شخص “شاه إيران” سفيراً لها في العراق، بعد أن ظلّ “المستشار هاشم حكيمي” قائماً بالأعمال حوالي سنة ونصف السنة ... ؛ وبعدما تحققنا من كامل هويته وسلوكه وتدرجه المتلاحق في المناصب، وآخرها محافظ “ولاية فارس” قبل أن يتبوأ منصب وزير الداخلية ، أبلغنا الجانب الإيراني بقبولنا لإياه سفيراً لبلاده لدينا ، وبعثنا موظفين من دائرة مراسم وزارتنا لإستقباله رسمياً عند بلوغه مطار بغداد الدولي ، وتهيأنا للمراسم المعتادة لتقديم أوراق إعتماده في القصر الجمهوري قبل أن يُعَدّ ماسكاً لمنصب السفير... ؛ و كنت على يمين السيد رئيس الجمهورية تحت القبة الزرقاء للقاعة الرئيسة للقصر، وقد وقف إلى يساره الزميل “إبراهيم الولي” رئيس دائرة التشريفات في ديوان الرئاسة ، وقتما دخل السفير المعين “سيد مهدي بيراسته” يرافقه القائم بالأعمال “المستشار هاشم حكيمي”، والملحق العسكري بالسفارة “العقيد معصومي”، يصحبهم المترجم الأقدم بالسفارة “سيد تيجاني”… ولكننا إستغربنا -بعض الشيء- من تفقد “سيد بيراسته” لمجموعة من الأوراق أخرجها من حقيبته الدبلوماسية الكبيرة التي كان يحملها -على غير العادة المتبعة- حتى إنتبه السيد رئيس الجمهورية قائلاً :- “يبدو أن السيد السفير قد نسي شيئاً لم يجلبه”… ؛ وعندها إستدرك السيد “بيراسته” الموقف فأسرع بإخراج أوراق إعتماده التي يجب أن يقدمها بيديه قبل أي شيء آخر، حتى وجه الرئيس كلامه إلى رئيس تشريفات الرئاسة بقوله :- “كان يجب أن يُلَقـَّن السيد السفير بعضاً من أسس البروتوكول الضرورية”... ؛ وبعد تسلـّم أوراق الإعتماد بدأ السفير بتلاوة صفحات عديدة كان قد أعدها مسبقاً وأطال فيها كثيراً -ونحن وقوف بوضع أشبه بإستعداد عسكري حسب الأصول السائدة- متطرقاً إلى تأريخ العلاقات بين الدولتين الإسلاميتين الجارتين وجغرافيتهما والوشائج بين شعبيهما والعشائر ذوات الأصول والجذور الواحدة التي فرّقتها الحدود المشتركة التي رسمها الإستعمار، حتى بلغ عبارة: “أن جلالة الشاهنشاه محمد رضا بهلوي المعظم يرفع إليك أسمى آيات السلام -يا فخامة الرئيس- ويتأمل منك الحرص على شيعة العراق”!!؟؟
إنتبه السيد الرئيس وخاطبه بلهجة أمر:-“قف عند حدك… شيعة العراق عرب أقحاح، وهم مواطنونا وأهلنا وأعزاؤنا وفي قلوبنا، وليسوا بحاجة لكائن من كان ليصبح وصياً عليهم… وهذا الذي تفوهت به أعتبره تدخلاً في شؤوننا الداخلية لا نقبله من أحد… لذلك أرفض أوراق إعتمادك، فإستلمها وأخرج، وبلغ سلامي لشاهنشاهك ليبعث إلينا سفيراً أكثر أدباً وأصولاً… إنتهت المقابلة”… ؛ قالها “عبدالسلام عارف” وأدار ظهره غاضباً وعاد بخطىً مسرعة إلى مكتبه الرسمي... ؛ فوجئ “سيد بيراسته” بذلك، فبدأ يصيح ويزمجر وسط القصر، حتى وجهناه -أنا ورئيس التشريفات معاً- مع صحبه وأجلسناه في غرفة التشريفات محاولين -ومعنا مرافقوه- تهدئته وتبيان أن مثل هذه العبارات لا يمكن النطق بها أمام رئيس جمهورية وفي مثل هكذا مناسبة عند تقديم أوراق إعتماد، بل ربما تـُطرح في لقاء خاص أو على إنفراد وسط مناسبة عامة… ولكن “سيد بيراسته” لم يهدأ، بل ظل يطالب -وبصوت عالٍ- أنه لا يمكن أن يرضى بأقل من إعتذار فوري -وأمام الجميع- عن تجاهل الرئيس لشخصه وتركه لإياه ومغادرته قاعة المراسم… فأوضحنا له أن ذلك ضرب من الخيال لا يمكن تحقيقه… فتوجه لسيارته وغادرنا غاضباً ومتوعداً... ؛ وأقام “سيد مهدي بيراسته” في “بغداد” لأسبوعين متتاليين، ولكن بصفته الشخصية وليست الرسمية، ولم نتعرّض له أو نتخذ إجراء حياله رغم علمنا بزياراته للبعض من السفراء والقناصل، وبالأخص السفارة الأمريكية المتاخمة بمبناها الضخم للقصر الجمهوري، ملتقياً في أروقته -حسب معلوماتنا- بالعديد من موظفي وكالة المخابرات المركزية (C.I.A) داخل السفارة، وذلك قبل أن يعود إلى بلده بسيارة رسمية عبر منفذ “قصر شيرين” الحدودي ... ؛ وبينما عاد “المستشار هاشم حكيمي” لممارسة مهماته قائماً بالأعمال، فقد ظلت المكاتبات بين وزارتنا والخارجية الإيرانية سجالاً حول إعتماد سفير آخر لدينا… إلاّ أن وساطة من وزارتي الخارجية التركية والباكستانية وسفيريهما في “بغداد” مهّدت لتهدئة الموقف بعد (7) أشهر كي نقبل “سيد مهدي بيراسته” ذاته سفيراً في “بغداد” شريطة أن يتصرف بكل أدب بصفة “سفيراً” في بلد غير بلده… فعاد إلينا أواخر عام (1964) ليقدم أوراق إعتماده ثانية للرئيس “عبدالسلام عارف” الذي بدوره طلب منه إعتذاراً عن تصرفه السابق وصراخه غير اللائق في أروقة القصر الجمهوري، فتم ذلك... ؛ ولكننا تلمّسناه -من بعد ذلك- سفيراً على درجة عالية من المهنية والإنصياع في أداء مهماته الدبلوماسية بكل أصول… وقد علمنا قبل ذلك أن “شاهنشاه إيران” قد وبّخه حيال ذلك التصرف، لافتاً نظره أن لكل مقام مقال، وعلى صاحب منصب السفير أن يكون “دبلوماسياً” قبل أي شيء، وعليه قلب أسلوبه في تسيير الأمور عكس ما كان عليه في منصبيه السابقين محافظاً ثم وزيراً للداخلية في بلده، واللذين يتطلـّبان شدة وحزماً وقرارات حاسمة ينبغي أن لا تـُثنـّى ولا تـُناقش بعد إتخاذها ... )) (4)
والذي اضحكني وانا اقرء هذه القصة ( الخرط ب خرط ) تعليق صاحب المقالة عليها ؛ اذ قال : ((أيـــن أصبحــنــا؟؟؟ وكيف؟؟؟ ... هكذا كنا لا نتقبل عبارة تمس بلدنا وسيادتنا وشؤوننا الداخلية… لكننا اليوم ومنذ الإحتلال الأمريكي البغيض الذي دمّر وطننا الحبيب وحلّ قواتنا المسلحة وجعل حدودنا سائبة أمام كل من هبّ ودبّ، وفرض علينا نظاماً سياسياً أفضى إلى تفريقنا طائفياً ومذهبياً ودينياً وعرقياً وجغرافياً ... )) (4)
لو سلمنا جدلا بصدق بوقوع هذه الحادثة - لأنكم كذبة وبامتياز - ؛ فهي عليكم وليست لكم ؛ ولو قرأها ابله لاستطاع الجزم بكونها مثلبة وليست منقبة للطرطور عارف وحكومته الهجينة – في احدى التسجيلات الصوتية المسربة والمنسوبة لصدام وصف فيها عبد السلام عارف ( بالطرطور ) - .
ولدي عليها عدة ملاحظات ومنها :
- 1-هل من المعقول ان الطرطور المهزلة عبدالسلام عارف اعرف وافهم بالإتكيت والبروتكولات الدولية من رجال البلاط الشاهنشاهي ؛ وهل من اللياقة الديبلوماسية ان يلتفت رئيس الجمهورية إلى رئيس تشريفات الرئاسة ويقول له :- “كان يجب أن يُلَقـَّن السيد السفير بعضاً من أسس البروتوكول الضرورية ... ؟؟!! ؛ اما كان الاولى به الانضباط والترفع عن سفاسف الامور ؛ فقد يخطئ الموفد الدولي والمسؤول الاجنبي لسبب مقبول او غيره ؛ الا انه ينبغي ان لا يرد عليه بهذه الطريقة البدائية والتي تنم عن ان صاحبنا الطرطور ( ما مصدك نفسه رئيس ويحكم بلاد الرافدين ) .
- 2-لم يجانب الحق والصواب والواقع شاه ايران عندما اوصى هذا الطرطور الطائفي بالأغلبية العراقية والتي تربطها بالأغلبية الايرانية وشائج القربى المذهبية واواصر الاخوة الدينية ؛ فالقاصي والداني يعرف حقيقة الوضع الطائفي والعنصري في العراق ؛ ومع كل تلك الحقائق الدامغة ؛ يصر الطائفي عارف على الكذب والدجل والنفاق السياسي والتزييف والتدليس ؛ ومن شبه اباه فما ظلم ؛ هذا هو ديدن القوم كذبة دجالون , قتلة طائفيون , دهاة ماكرون , ذباحة ارهابيون , قساة جلادون ... .
- 3- والمضحك في الامر ان السفير الايراني وبعد ان تم رفضه من قبل سيادة المشير الطرطور ( الكدع عبد السلام عارف ) ... ؛ لم يبرح مكانه من القصر , بل راح يرفع عقيرته بالصياح والصراخ والعربدة والاستنكار ؛ تنديدا ورفضا لقرار الطرطور عارف ؛ والادهى من ذلك كله حاول موظفو القصر استرضاءه وتهدئته ولم يقبل بذلك الا باعتذار سيادة المشين الطرطور له وامام الجميع ... ؛ وبعد هذه الجولة الماراثونية المضحكة والمهزلة السياسية ؛ لم يهتم السفير الايراني لغضب سيادة المشير الطرطور عارف – لأنه يعرف انه افرغ من فؤاد ام موسى ؛ واجبن من نعامة - ؛ وراح يمارس حياته بصورة طبيعية ولمدة اسبوعين كاملين في العراق ؛ حيث التقى بالسفراء الاجانب وتباحث معهم ؛ وحكومة الطرطور عارف لم تتخذ اية اجراءات رادعة لحفظ هيبة وسيادة الدولة ... ؛ ومع كل تلك المهازل رجع السفير الى العراق مرة اخرى ؛ رغم انف الطرطور المشير عارف ؛ وكالعادة زعم القوم ان الاتراك والباكستانيين تدخلوا من اجل ذلك ... ؛ بل ادعوا ان سلوك السفير قد تحسن بقدرة قادر, بين ليلة وضحاها - ( مو هو عراقي مكرود عذبوه ومن طلع من السجن صار بعثي وكالوا عنه تحسنت اخلاقه ..!! ) - ؛ وهذا يذكرني بالسلطات البعثية الصدامية التي كانت تعتقل الاشخاص الملتزمين دينيا – الشيعة - ؛ وتعذبهم بشتى صنوف العذاب ؛ وقد يفرج عن بعضهم ؛ وهذا البعض بعضه قد يحتسي الخمر ويترك الصلاة والصوم ؛ كردة فعل طبيعية عن ما شاهده من ويلات في المعتقلات ؛ وعندها يكتب البعثيون عنه في تقاريرهم : تحسنت اخلاقه ...!! .
- 4- والاعجب من القصة تعليق صاحب المقالة ؛ عن اي سيادة تتكلم انت , عن الكويت التي اعترف بها الطرطور عارف ام عن التنازلات لكل دول الجوار , ام عن اتباع الطرطور ( الكدع عارف ) للرئيس المصري عبد الناصر وكأنه من اتباعه وخدمه الاذلاء وليس رئيسا لبلاد الرافدين العظيمة ؛ وهل كان عارف ومن لف لفه من حكام الفئة الهجينة يستطيع ان يقصف هو او تقصف في عهده السفارة الامريكية او يقتل الجنود الامريكان والبريطانيين وبالألاف كما حصل في عهد الحكومات الوطنية الديمقراطية ..؟؟!!
ومر عليكم في الحلقة الثانية من هذه السلسلة ؛ الاسباب التي دعت شاه ايران للطلب من الحكومة العراقية الضعيفة ان تستقبل السيد الخميني ؛ وقيل ان السيد الخميني بعد مطالبة الحكومة التركية بخروجه من تركيا ؛ قدم طلب للسفارة العراقية في تركيا او للحكومة العراقية من اجل المكوث في العراق ؛ وقد ادعى الكاتب الهجين والبعثي المنكوس والقلم المأجور المدلس هارون محمد ؛ ان عائلة الخالصي والتي كانت تربطها علاقات طيبة بالرئيس عارف ؛ قد بادرت الى ابلاغ الرئيس عارف برغبة السيد الخميني في القدوم الى العراق , والاقامة في النجف الاشرف ... ؛ وقد وافق الرئيس عارف فورا ... ؛ واوعز الى رئيس وزرائه الفريق طاهر يحيي باتخاذ ما يلزم بشأن تذليل العقبات لوصول رجل الدين الايراني الى العراق... ؛ وحسب الاصول المتبعة آنذاك , احيل قرار مجلس الوزراء العراقي بالسماح للسيد الخميني بالقدوم الى العراق والاقامة في النجف الى وزيري الداخلية اللواء رشيد مصلح التكريتي , والخارجية صبحي عبدالحميد ؛ حيث اتخذ الاول تدابير تأمين الاقامة والحماية للسيد الخميني واسرته ، فيما تولى الثاني مهمة اشعار السفارة العراقية في تركيا باستكمال اجراءات سفره الى بغداد... ؛ وبينما كانت الاجراءات الحكومية العراقية على وشك الانتهاء لاستقبال السيد الخميني وتهيئة دار له في النجف ، وصل الى بغداد الشيخ على كاشف الغطاء وكانت له علاقات طيبة مع كبار المسؤولين ؛ وهو يحمل رسالة من احد مراجع الدين المعروفين ( م ) الى رئيس الوزراء الفريق طاهر يحيي يقول فيها بالنص : (( انه سيغادر العراق مغاضبا اذا قدم الملا الايراني المشاغب الى النجف واقام فيها ! )) ؛ وهذا الامر ليس مستغربا وسط البيئة النجفية المعروفة ؛ اذ نقل البعثي حسن العلوي ان صدام بعد انتصار الثورة الاسلامية في ايران ؛ قال له بالحرف الواحد : (( ربعك غشوني )) – اي قومك الشيعة قد خدعوني ؛ فقد كانت التقارير التي ترفع من الحوزة النجفية للقيادة البعثية تصف السيد الخميني بالجنون ....!!- ؛ وقد صدم صدام بنجاح هذه الشخصية بقيادة الدولة والثورة وتبين له انه سياسي و يعرف كيف يتصرف ومتى يقرر انهاء الحرب – يعني سياسي من الطراز الاول - وكما عبر صدام عن ذلك بإحدى الاجتماعات الرسمية المتلفزة في بداية عقد الثمانينات من القرن المنصرم ... ؛ بينما كان القوم يصفونه في تقاريرهم الكيدية : (( بالجنون و ( الخبال ) )) ... ؛و ازاء ذلك اتخذت الحكومة العراقية قرارا سريعا تضمن ان يقيم السيد الخميني واسرته المرافقة له في سامراء مؤقتا لطمأنة المرجع الديني ( م ) وامتصاص غضبه ؛ والذي كانت تربطه علاقات طيبة بشاه ايران ... ، وهو ما حصل بالفعل حيث وصل السيد الخميني في منتصف نيسان 1964 وكان بصحبته ولداه مصطفى واحمد وزوجته وابنته ونقلوا جميعا الى سامراء حيث استأجرت السلطات الحكومية في القضاء دارا لهم تعود الى اسرة الكريم ... ؛ وبعد اربعة شهور من الاقامة في سامراء ونتيجة لمساع بذلها المرجع الديني ( خ ) لدى المرجع الديني ( م ) ؛ وافق الاخير على قدوم السيد الخميني الى النجف والاقامة فيها، لكنه اشترط ان ينصرف الى الشؤون الدينية والابتعاد عن السياسة والتوقف عن انتقاد شاه ايران، وفي الخامس من ايلول 1964 وصل السيد الخميني الى النجف واستقبله القوميون العرب في المدينة بحفاوة بالغة باعتباره شخصية سياسية ودينية معارضة لشاه ايران المعادي للقومية العربية ولم يكن من رجال الدين الشيعة في استقباله غير الشيخ على كاشف الغطاء ... - ولا نعرف سبب استقبال الشيخ علي كاشف الغطاء للسيد الخميني ؛ هل لان توجهه توجه حكومي ؛ ام لأسباب سياسية او دينية اخرى ؛ وان كنت ارجح السبب الاول ؛ لان مشرب الشيخ علي يختلف اختلافا كليا عن مشرب السيد الخميني السياسي والمعرفي - . (5) ... ؛ الا ان المدعو هارون محمد لم يأت بالأدلة او الوثائق التي تؤكد كلامه المذكور انفا ؛ وبغض النظر عن صدق دعوى هذا البعثي الهجين المنكوس ؛ هنالك بعض القرائن التي تؤكد بعض الاحداث التي ذكرت في مقالته ... ؛ فقد ذكر السيد الخميني فيما بعد حجم المعارضات والمشاكسات والغمز واللمز والمضايقات التي تعرض لها في النجف الاشرف ؛ لا من قبل جبهة الأعداء الحقيقيين كالشاه والقوى الاجنبية ؛ بل من قبل المتمظهرين بلباس رجال الدين وطلاب الدنيا المتسترين بأزياء العلم والحوزة – المؤسسة الدينية المنكوسة - ... ؛ والتي أتسعت وتفاقمت إلى درجة أن السيد الخميني و رغم كل ما أوتي من صبر وحلم اشتهر بهما ذكر ظروف الكفاح في تلك الأعوام بكل مرارة وأسى ؛ وكأن لسان حاله ؛ ما قاله الشاعر العربي طرفة بن العبد :
وظُلمُ ذوي القربى أشد مضاضةً .. على المرء من وقع الحسامِ المهنّدِ
فقد كانت ضغوطات رجال الدين من المحسوبين على الطبقة ( العلمائية ) وممن يلبسون لباس الدين قوية جدا ، بحيث وصل الامر بهم الى توجيه الكلام الجارح له , وثنيه عن طريقه الذي اختاره ... . ( 6)
ولكن الرواية المشهورة تذهب الى ان السيد الخميني و بعد وصوله الى بغداد ؛ توجه مباشرة لزيارة مراقد الأئمة المعصومين في الكاظمية وسامراء وكربلاء ، ثم سافر بعد اسبوع واحد فقط الى محل اقامته الجديد في مدينة النجف الاشرف ؛ لا كما ادعى الكاتب البعثي الطائفي هارون محمد .
وعلى الرغم من كل تلك الصعاب والمحن التي اعترضت طريق السيد الخميني ؛ إلا أنها لم تتمكن من ثنيه عن المسار السياسي والمعرفي والديني الذي اختاره بكل وعي واصرار كما ذكرنا انفا ؛ واليكم بعض الامثلة : فقد دخل عليه في احدى المرات احدى طلبة المعارف الدينية - والذي اصبح مرجعا دينيا ايرانيا فيما بعد ( ت ) – واسمع السيد الخميني كلاما جارحا وبصوت عال ؛ بل وسفه فكرة ولاية الفقيه مما دفع السيد الخميني الى امره بالانصراف والخروج فورا ... ؛ فقد بدأ السيد الخميني بإلقاء دروس البحث الخارج في الفقه رغم كل الاعتراضات والعراقيل التي افتعلتها العناصر المغرضة النجفية والمرتبطة بالجهات الخارجية بالإضافة الى قوى الداخل المنكوسة ... ؛ في مسجد الشيخ الأنصاري بالنجف الأشرف، واستمرت هذه الدروس حتى مغادرته العراق إلى باريس ... وكان يحضر درسه الطلبة الايرانيون، والباكستانيون والعراقيون والافغان والهنود والخليجيون وغيرهم لينهلوا من نبع معلوماته التي كانت مختلفة نوعا ما عما يطرحه الاخرون ولاسيما في الجانب السياسي ؛ وقد شجع ذلك انصار السيد الخميني ومحبيه ممن كانوا في ايران على الهجرة الجماعية الى النجف الاشرف ؛ وكانت دروسه من أبرز وأفضل الدروس نوعياً وكمياً في حوزة النجف الاشرف ؛ فقد كانت عبارة عن طريقة فعالة للتواصل مع كافة شرائح المجتمع الايراني وايصال رسائله الى الامة الايرانية من خلالها بصور ( مجفرة - غير مباشرة - ) واخرى مباشرة احيانا ؛ فقد كان يدعو الايرانيين في كل مناسبة الى اكمال المسيرة والتصدي لمخططات الشاه والقوى الدولية كالأمريكان والبريطانيين والتي تستهدف مصالح الشعب الايراني ... .
وقد اثبت السيد الخميني منذ بداية وجوده في العراق وعبر لقائه المقتضب مع ممثل الرئيس العراقي آنذاك (عبد السلام عارف) ؛ ورفضه الاقتراح القاضي بعقد مؤتمر صحفي وتلفزيوني ؛ بأنه ليس ذلك الشخص الذي يرضى بان يجعل من اصالة منهاجه الثوري ورؤيته الدينية ثمناً للمصالحة بين نظامي بغداد وطهران... ؛ وقد بقي هذا المنحى من الابتعاد عن المساومات السياسية بين الجانبين - والتي يراد منها جعله ومشروعه السياسي ؛ كبش فداء لها - صفة ملازمة لنهج السيد الخميني طوال فترة اقامته في العراق ... ؛ وكل محاولات الانظمة الهجينة في العراق معه باءت بالفشل ؛ او لا اقل لم يحصلوا منه على ما يتعارض مع مشروعه السياسي الهادف والواضح منذ البداية ... ؛ اذ كان بإمكانه اعلان الموافقة المبدئية للتعاون مع الانظمة العراقية المعادية لإيران وقتذاك او القبول التنسيق معها ؛ ولو اقدم على تلك الخطوة آنذاك , لانهالت عليه العروض المغرية وقدمت له كافة الامكانيات المادية والمعنوية ؛ لتوظيفها في نضاله ضد الشاه ، غير ان السيد الخميني لم يمتنع عن الاقدام على ذلك وحسب ، وانما كان يقف في تلك المواطن على جبهتين او عدة جبهات لممارسة دوره السياسي ومشروعه الاصلاحي ، وفي احيان عديدة بلغ الموقف حدَّ المواجهة مع النظام العراقي بالإضافة الى مواجهة النظام الايراني وجبهة المؤسسة الدينية المنكوسة ... ؛ فلم يقبل بصيرورته دمية تحركها الاطراف الدولية او الجانبان العراقي والايراني ؛ او اداة للمهاترات و المناوشات السياسية المتعارفة بين حكومتي بغداد وطهران ... ؛ نعم السيد الخميني يعرف كيف يتصرف ويستفاد من الفرص المتاحة ؛ بالإضافة الى خبرته الطويلة في التعامل مع الاعداء والخصوم والتي سخرها لتحقيق اهدافها التي يؤمن بها ؛ فلا بأس بنظره في الاستفادة من الاعداء والخصوم ان كانت تصب في مصلحة مشروعه السياسي ولا تحقق للأعداء والخصوم اهدافهم المشبوهة ؛ و بغض النظر عن اراء الاخرين في تحركاته او آرائه السياسية والمعرفية والدينية .
وقيل ان الرئيس عبدالسلام عارف اصدر قرار ترحيب بالسيد االخميني للإقامة على الأراضي العراقية ؛ وان صح هذا الامر , فالأسباب التي ذكرتها انفا ... ؛ وادعى بعض الكتاب الطائفيين و ( القومجية ) : ان السيد الخميني أظهر التزاما دقيقا بما تم الاتفاق عليه مع المرجع الديني ( م ) ، وعاش في النجف منطويا على نفسه ، و له برنامج خاص يتبعه كل يوم ،و لم يكن له نشاط يذكر ضد الشاه ، حتى عام 1968 ... ؛ الا ان القرائن والاحداث التاريخية والسياسية والارهاصات الاجتماعية والتحركات الدينية وقتذاك والتي اسفرت عن نتائج مهمة فيما بعد ؛ تكذب هذه الادعاءات او تقلل من غلوها ... ؛ ،و كانت مديريّة الأمن العامّ الحكومية في العراق تراقب الأوضاع عن كثبٍ ؛ فهو تحت عيون جواسيسها في النجف الاشرف .
السلطات العراقية حاولت التقرب من السيد الخميني – كما مر انفا - في اطار التنافس والاعلام الحكومي المزيف على جلب تأييد العلماء والفقهاء لتحسين صورتها الطائفية القبيحة , فعرضت عليه اجراء المقابلات في الصحف والاذاعة والتلفزيون , الا ان اللعبة السياسية – (( القومجية ))- لم تنطلي على السيد الخميني الخبير بهذه الالاعيب السياسية , فقد رفض عروض النظام القومي المقيت بكل هدوء وذكاء , وفضل عدم التعامل مع هؤلاء , في حين كان مبعوثو عبدالسلام عارف وكبار مسؤولي الدولة القومية يتقاطرون عليه لعرض خدماتهم والسؤال عن وضعه والاطمئنان عليه ... ؛ ومزايدة حكومة عبد السلام على السيد الخميني تأتي تزامنا مع التوتر الذي شهدته العلاقات العراقية – الايرانية , فترة أواسط الستينات ؛ بسبب المواقف السلبية للشاه الايراني من القضايا العربية , والعداء المحتدم بينه وبين جمال عبد الناصر؛ وبما ان العراق آنذاك يدور في الفلك المصري – انطلاقا من الايدلوجية القومجية - ؛ اضافة الى التوتر الحاصل بين الحكومة العراقية و الجماهير الشيعية بالاضافة الى بعض المرجعيات النجفية , لكل هذه الاسباب وغيرها أرادت حكومة عبدالسلام المناورة بقضية المعارضة الايرانية والضغط بورقة السيد الخميني على الحكومة الايرانية ؛ وقد خاب ظن السلطة القومية باستغلال السيد الخميني لصالح مآربها السياسية ... كما نوهنا الى ذلك في السطور السابقة .
....................................................................
- 1-الطائفية في العهد الجمهوري، القاسمي والعارفي / عبدالخالق حسين / بتصرف كبير .
- 2- د. ليث عبد المحسن الزبيدي، ثورة 14 تموز 1958 في العراق، دار الرشيد للنشر، بغداد، 1979 - مقابلة شخصية بين المؤلف مع السيد هديب الحاج حمود، بتاريخ 21-6-1977، في العراق، ص404-405.
- 3-د.سعيد السامرائي، الطائفية في العراق، ط1، مؤسسة الفجر، لندن، 1993، ص 46.
- 4-لماذا أعاد الرئيس “عبدالسلام عارف” سفير “إيران” إلى بلده؟؟؟ / صبحي ناظم توفيق .
- 5-كيف سمح الرئيس عبدالسلام عارف للخميني بالقدوم الى العراق والاقامة في النجف؟ / هارون محمد / بتصرف .
- 6- حديث الانطلاق (نظرة إلى الحياة العلمية والسياسية للإمام الخميني الراحل (قدس)، دار المعارف الإسلامية الثقافية، بيروت- لبنان، ط 1، 2019 م. ص 63 / حميد الانصاري / بتصرف .