ورد هذا البيت الشعري بصيغتين ؛ الاولى :  

دَنَت وَظِلالُ المَوتِ بَيني وَبَينَها ***وَجادَت بِوَصلٍ حينَ لا يَنفَعُ الوَصلُ

ونسب  للشاعر امرؤ القيس ابن عابس الكندي ؛ والثانية : 

أَتَت وَحِياضُ المَوتِ بَيني وَبَينَها ×××وَجادَت بِوَصلٍ حينَ لا يَنفَعُ الوَصلُ

ونسب للشاعر محمد بن نصر الله الدمشقي – الانصاري الكوفي العراقي الاصل - . 

و ذكر البعض قصتين حول هذا البيت الشعري مختلفتان ؛ ايضا  : 

فقد ذكر الشيخ البهائي العاملي  في كتابه الكشكول ( ص 155 ) : (( كان بعض الأعراب يهوى جارية وكانت تتجنى عليه ولا تكلمه ، فأدنفه الهوى إلى أن حضرت الوفاة، فقيل لها إنه أتلفه حبك فهلا  زريته وفيه رمق ؟ فأتت إليه وقبضت بعضاده الباب وقالت: كيف حالك ؟ فأنشد :

ولما دنا مني السياق تعطفت ... علي وعندي من تعطفها شغل

أتت وحياض الموت بيني وبينها ... وجادت بوصل حين لا ينفع الوصل

ثم نظر إليها نظرة تحسر، وتنفس الصعداء ومات ... .

والثانية عن الشاعر عباس بن علي بن ياسين البغدادي أبو الأمين، المعروف بالشيخ عباس بن الملا علي ؛ والذي كان فاضلا أديبا، جميل الشكل، حسن الصوت، لطيف المعاشرة، وكان أبوه بغداديا تقيا، هاجر من بغداد ومعه ابنه هذا وهو رضيع إلى النجف، فنشا ولده هناك، وكان وقاد الذهن، حاد الفهم، وسيما، ذا عارضة شديدة، وهمة عالية، مشاركا في العلوم على صغره، وفيه يقول عبد الباقي:

تسامى على الأقران فهو أجلهم ... وأكبرهم عقلا وأصغرهم سنا

وتوفي أواسط رمضان سنة ألف ومائتين وست وسبعين بالنجف، ودفن بالصحن تجاه باب الرواق الكبير، ويقال في سبب موته إنه هوى ابنة أحد الأشراف وأخفى هواه، حتى أنحله، فلما علم بذلك أبوها وكان يحبه، عقد عليها وأدخلها عليه، فلما نظرها أنشدها :

ولما رأتني في السياق تعطفت ... علي وعندي من تعطفها شغل

أتت وحياض الموت بيني وبينها ... وجادت بوصل حيث لا ينفع الوصل

ثم قضى نحبه ، رحمه الله، كما يقال : إنها كانت تخفي هواه أيضا، فماتت بعده بلا فاصلة.(1) 

احببت ان استهل مقالتي بهاتين البيتين الشعريين والقصتين ؛ ثم اعرج بكم الى تفاصيل الموضوع ؛ فالإنسان بطبعه  كائن اجتماعي  ؛ و  يحتاج نجمة ما في سمائه -  كما قالت الكاتبة رضوى عاشور- ؛ اي عشيقة او زوجة او اخت او ام او صديقة ... الخ ؛ تضيء له الدرب المظلم وتكشف له معالم الطريق الوعر ؛ وكذلك الانسان بطبعه حيوان مستهلك وشهواني شره ؛ و يُشير (ابن خلدون) في مقدّمته إلى أنّ الإنسان عدوانيُّ وظالمٌ بطبعه لأنّه حيوانٌ في طبعه ، ولذلك لابدّ أن تكون في كلّ جماعةٍ من البشر سُلطةٌ مقبولةٌ تمنعُ بعضَهم من مهاجمةِ بعضٍ ليستقيم عُمرانهم ... ؛  ويقول الدكتور (علي الوردي) : « إن الإنسان وحشيُّ بالطّبع ومدنيُّ بالتطبّع، فهو حيوانٌ مفترسٌ في أعماق نفسه، وما هذه المظاهرُ إلا غطاء يسترُ بها الإنسانُ طبيعته الأصيلة » ؛ وقد ذهب  الفيلسوف الانكليزي توماس  هوبز  الى أن الإنسان مطبوع على حب الذات والأنانية نتيجة فساد تكويني طبيعي فيه، ولذلك فأفعاله مدفوعة بمصلحته الشخصية، وبالتالي فالإنسان يميل نحو حياة

الأنانية ، وليس الاجتماع ، لأنه في طبعة شرير ومتوحش، أي أنه مطبوع على (شر جذري) بحسب توصيف كانط  للحالة الطبيعية للإنسان ...  ؛ وفكرة الاجتماع الإنساني لديه هي مدعاة للتقابل البشري العنيف، وبالتالي ليست أنثروبولوجيا النوع الإنساني سوى حرب الكل ضد الكل ... الخ . (2)

كل العشاق سعوا الى تذليل الصعاب من أجل الوصال , وبذلوا الغالي والنفيس مقابل لحظة لقاء عابر ... ؛ بل قد يصل الامر بالعاشق الى : صومُ القلب والعين والعقل عن رؤية ما سوى المعشوق .. والعيش له ، وبه ، وفيه .. فلا وجود لدى العاشق ، إلا لما يقترن بالمعشوق أو يقترب منه .. وما عداه من ركام الموجودات ، خيالاتٌ باهتة لا حضور حقيقي لها... – كما قال الكاتب يوسف زيدان - ؛ ومع كل ذلك قد تنطفئ جذوة الحب ؛ وتبرد نار العشق ولا يبقى منها سوى الرماد .

نعم قد تتحول الاشياء والامور المحببة للنفس  الى اشياء وامور غير مرحب بها او عديمة القيمة  ؛ ان جاءت متأخرة ... ؛ فقد جاءت بعد ان فات أوان اللهفة , وبعد انطفاء الشغف وانعدام الرغبة  ؛ وحالت بين الانسان وما يحب ويرغب ويهوى ... ؛ الظروف القاهرة او النهايات القريبة  او التغيرات الفيزيولوجية والنفسية    

بماذا ينفع الوصل والظفر بالمحبوب والمرغوب ؛ بعدما ظل  المرء يطلبه طوال عمره ؛ طلباً حثيثاً , تدفعه إليه قوة كامنة عميقة كاسرة لا تقهر، ولا تعرف كللاً ولا مللاً ... ؛ في حالة الاحتضار والنزوع الى العالم الاخر , و وقوف سكرات الموت حائلا  وسدا منيعا بين وصال الشخصين ... ؛ جاءت حبيبته  بينما عيناه قد تسمرتا على ذلك الامر المجهول  الذي يماحِك قدره  الحتمي في استجداءٍ أخيرٍ للبقاء  واطالة امد الحياة  ولو لسويعات قليلة ؟! .

الموت نهاية كل حي مهما طال به البقاء، ولعله الحقيقة الوحيدة التي اتفق عليها الناس جميعاً رغم اختلاف عقائدهم ومذاهبهم، ورغم اختلافهم على ما بعد الحياة الدنيا من حياة أخروية أو عدم ... ؛  لذلك نجد الناس جميعاً يفكرون بالموت بشكل ما، وإن اختلفت نظراتهم إليه، واختلفت حيواتهم بناء على ذلك، لأنه - كما يقول الدكتور بيتر شتاينكرون - :  غريزة كامنة في أعماق النفس الإنسانية، كغريزة الحياة سواء بسواء، فكل واحد منا لديه في فطرته الغريزتان، وإن كانت غريزة الحياة واضحة ظاهرة الأثر في حركاتنا وسكناتنا، بينما الغريزة الأخرى، غريزة الموت، لا تظهر واضحة جلية إلا لمن أمعن النظر، ولم تخدعه ظواهر الأمور ... ؛ وكأن الغريزتين المتضادتين جوادان، أحدهما أبيض ناصع البياض، والآخر أسود حالك السواد، يتنازعان المرء شداً وجذباً، ولكن الجواد الأبيض يظل في الغالب فياض الحيوية، له الكلمة العليا إلى أن يُغلب على أمره، فينطفئ سراج الحياة، وتكون الكلمة للجواد الأسود، ولكن يحدث أحياناً أن تنعكس تلك الآية تحت ضغط بعض الظروف، فإذا الجواد الأسود هو الغالب منذ البداية، فينتشر على وجه الحياة ظل الموت ويندفع المرء في تياره ... ؛ وعلماء النفس اليوم يعترفون بهذا الازدواج، وإن كان الإنسان العادي يجهل ذلك الوجود المزدوج لغريزتي الموت والحياة، فهذا فرويد يقول بصراحة ووضوح : غاية الحياة هي الموت ... ؛  ثم نراه يقرر أيضاً : أن كل إنسان لديه دافع إلى إعدام نفسه، ولكن هذا الدافع يختلف في مقداره وقوته باختلاف الأشخاص ... ؛  وهذا أيضاً تلميذه وصديقه (هانز ساخس) يقول أيضاً : إن جميع مظاهر الحياة هي نتيجة ذلك التجاذب الذي لا نهاية له بين غريزة الحياة بانتصاراتها الظاهرة وغريزة الموت بقوتها الساكنة الخفية التي لا تقهر ... ؛ وقوة البقاء التي تلازمنا منذ ولادتنا ، غالباً ما تكون من السطوة، بحيث تشل حركة الغريزة المضادة لها، فتبقيها نائمة معطلة ؛ ولكن يحدث في بعض الأحيان أن تكون قوة الهلاك أشد في الشخص من قوة البقاء، فينجم عن ذلك ما يمكن أن نسميه مغامرة أو تهوراً أو مخاطرة أو غير ذلك، ونصف صاحبها بأنه مغامر أو متهور أو مخاطر، بينما يسمي ذلك فرويد غريزة الفناء ... . (3)

نعم قد تأتي لحظات يصبح الانسان فيها مشلولا ,  مريضا  , عاجزا , مضطربا , خاملا , متعبا  , مشدوها ,  حائرا  , خائر العزم ,  منهك القوى ؛  كارها للحياة , محبا للموت والفناء , لا يرغب بالاستزادة من الحياة ... الخ ؛ ولعل  هذه الآية القرآنية  تشير الى هذا المعنى : ((خَلَقْنَا الإنسان فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ثم رددناه أسفل السافلين )) . 

وقد يعيد الألم والعذاب والبلاء  ترتيب الأوراق ، والموقف من الوجود والناس والامور والاشياء ، ويحبس المبتلى عن التدفق في نهر الحياة الجاري ليبصر موضع قدميه منه ... ؛ و يصبح الواقع في حبسه  ؛ بحيث يرى الأشياء على ما هي عليه ، و يعيد له تعريف الأشياء من حوله ، ويسحق هرم أولوياته السابق ليشيد آخر ببصيرة لا يشوشها الزيف والوهم ... ؛ ويبصر محدودية الإنسان وضعفه وهشاشته ... ؛ هذا الارتباك الذي اجتاح تصوراته فور مهاجمة الألم ، وهذا الانفراط المتعاقب لأموره بعد سنين الانتظام، وهذه الآمال والخطط والأحلام التي تهاوت قلاعها شيئًا فشيئًا تحت وطأة البلاء بعد أن شيد قصورها على رمال شواطئ الأيام الهانئة، فجرفتها موجة لم تكن قط في حسبانه ...  – عن هدايا البلاء / بتصرف - . 

فبينما كان الانسان يتمنى و يتوق و يبتغي ويحب ويعشق ويشتهي ويعتدي ... الخ ؛ اصبح لا يبالي ولا يكترث ولا يهتم ... ؛ ولا يتأثر بشيءٍ هنا او هناك , و قد  يصبح متبلد المشاعر و الطباع لا يهتم ولا يكترث إلى أي شيءٍ يطرأ و يحدث له سواء كان حزنا أو فرحًا ... .

أرهقته الحياة واثقلت كاهله الامراض والهموم  والاعباء المعيشية , واصبح كالحجر الذي لا يضر ولا ينفع ؛ وعندها تتركه الشهوات والرغبات  ؛ شاء ذلك ام أبى  .

ويفقد القدرة على الحاق الضرر بالأخرين , او شن  العدوان عليهم ؛ لا لكونه مسالما بل لوجود العلة والعائق كما اشرنا الى ذلك انفا ؛ وقول شاعرنا الكبير المتنبي يؤكد ذلك : 

الظُلمُ مِن شِيَمِ النُفوسِ فَإِن تَجِد ××× ذا عِفَّةٍ فَلِعِلَّةٍ لا يَظلِمُ

............................................................

  • 1-كتاب  الطليعة من شعراء الشيعة  /  مجلد 1 / ص 122 / الشيخ محمد السماوي .  
  • 2-توماس هوبز الفيلسوف الملكي  / مالك المكانين . 
  • 3-ثنائية الموت والحياة في شعر أبي فراس الحمداني / أحمد فوزي الهيب .