قال أحمد الشقيري فيما يخص المزاج : (( القرارات السليمة مبنية على المبادئ لا المزاج )) .
صحيح إن الإنسان عبارة عن مجموعة من العواطف والاحاسيس والمشاعر والشهوات والغرائز ؛ الا ان الامر الجوهري الذي يميز الانسان عن باقي الحيوانات العقل والعقلانية ... ؛ فالعقل ميزان من خلاله نستطيع معرفة الفروق بين الاشياء وتحديد المواضيع , ولولا التفكير ما وجدت الحضارات ولا العلوم ولا الانجازات والابتكارات والاختراعات العلمية , ولا المعتقدات والاديان والنظريات ... ؛ بل لولا العقل والتفكير المنطقي الصارم لما استقامت الحياة واستقرت وتطورت , فالتفكير العلمي سيرشدنا إلى الحوار العقلاني ويُنتج من الاختلاف مساحات أكثر اتساعا لطرق حياتية جديدة ونظريات وسلوكيات مختلفة وفعاليات متجددة ومتغيرة ... ؛ وهو بوصلة التجديد والإبداع والعمل والتنظيم و التأمل والبحث للكشف عن الأسرار الطبيعية والحقائق الكونية ؛ لرفع الظلمة عن حياة بني البشر؛ لتشرق انوار محكمة الفكر وشمس العقل ... ؛ وعندها يكون العقل والمنطق هو المناعة التي تصون الانسان من الانفعالات والتصرفات الهوجاء والرؤى الظلامية والخرافات والخزعبلات والهرطقات والشذوذ والانحرافات والاخطاء المهلكة ... ؛ أي أن ما يميز العقلانية هو اتساق وصلابة الإجراءات والأفكار التي تنبثق عنها ؛ لذلك تقول : النظرية أن شيئًا ما منطقيًا يمكن فهمه من قِبل العديد من الأشخاص ، لأن تماسك هذه المجموعة من الأفكار المكوّنة معًا هي معلومات يمكن توصيلها عبر الصيغ العقلانية المتعارفة ، وليس اعتمادًا على العاطفة والمزاج المتقلب والذات ؛ لذلك لا ترى اشخاص يختلفون حول نتيجة معادلة رياضية او بديهة عقلية .
وأما العاطفة الجياشة – والمبالغ فيها - والمزاجية الحادة فهي الدائرة الذاتية المغلقة ؛ و التي لا يمكن التعبير عنه بعبارات منطقية ، وهذا هو السبب في أنها "مغلقة" في الذاتية والمزاجية ... ؛ فالمشاعر والعواطف والاحاسيس تختلف من شخص لآخر ؛ وترتبط فيما بيها بشبكة معقدة من عوامل الوعي واللاوعي , بل وحتى النزوع الى التصرفات البدائية الغريبة والغامضة احيانا , فلكل شخص تجربته في الحياة والتي قد تنعكس على حالته العاطفية والمزاجية والعامة ... , لذلك تختلف انماط السلوك بين الاشخاص , وقد تختلف تصرفات الشخص نفسه تبعا لتقلبات مزاجه وتغيرات ظروفه واحواله ؛ بل احيانا تتمرد الاحاسيس وتتمدد العواطف على حساب العقل والتفكير والمنطق ؛ لذا قيل : العقل يقرر لكن العاطفة هي التي تقود , لذا قد تشاهد ان المزاجية و اللاعقلانية هي الأكثر حضوراً وتأثيرا في حياتنا ؛ فبدلا من أن يكون التفكير المنطقي والعقلاني ، سمة أساسية للإنسان ؛ تسود العاطفة وتتربع المزاجية على التصرفات وردود الافعال الشخصية , ويصبح وجود حساباتنا المنطقية وقراراتنا العقلية على الورق أكثر مما توجد في داخلنا وقرارة نفوسنا ... ؛ وصدق الكاتب فيودور دوستويفسكي : ((أن المزاج كثيرا ما ينتصر ويتمرد على قرارات العقل )) .
وبما ان اغلبنا يعيش في مجتمعات مريضة وتجمعات متخشبة وضيقة الافق ؛ وبعيدة كل البعد عن الانضباط السلوكي المستند على منظومة معرفية عقلية واضحة المعالم ومعلومة النتائج ... ؛ سوف تتعرض بين الفينة والاخرى لصدمة عاطفية من احدى الشخصيات المزاجية ؛ وسيعكر المزاجيون صفو حياتك ما دمت بقربهم ؛ فهم كالنار تأكل الاقرب فالأقرب ؛ فهؤلاء يعيشون في دوامة من المشاعر المتضاربة والاحاسيس المتضادة والتي تتراوح ما بين السعادة الفائقة والضحك الى حد القهقهة بصوت عال الى الحزن والاكتئاب والضيق ؛ او ما بين السكينة والهدوء الى الهستيريا والصراخ والعصبية ... الخ ؛ وقد لا يعرفون ماذا يريدون منا ومن انفسهم احيانا , وبناء على ما تقدم سوف يتعامل الشخص المزاجي حسب مشاعره فان كان سعيدا وهادئا يتعامل باحترام ولطف معك ؛ اما ان كان مزاجه سيئا معكرا ومشاعره سلبية فقد يتصرف معك بطريقة مشينة ومنحطة وتفتقر الى اللياقة الاجتماعية والاحترام والادب ... .
والتعامل مع الشخص المزاجي صعب للغاية فقد تصدر منك كلمة عفوية الا انها قد تجعله يرتطم بالأرض ارتطام مدويًا , وينهال عليك بالشتم والسباب او قد يضربك كما الحيوانات الوحشية , وقد تتسامر معه طوال الليل وتتبادل المشاعر الايجابية واذ به في صباح اليوم التالي ينقلب عليك فجأة ومن دون اسباب معقولة او لأسباب تافهة ؛ فقد نقل لي احد الاشخاص ان صديقه قد هجره لأنه رأى رؤية في المنام حوله ؛ و قد فسرها له احد رجال الدين تفسيرا سلبيا مما انعكس سلبا على علاقة الصداقة فيما بينهما وتفرقا ... ؛ او يتذكر موقف او قصة حدثت منذ سنوات بينكما وقد طواها الزمن – وجل من لا يخطئ - ؛ ويتخذ قرارا بقطع العلاقة معك لاجلها ؛ وقد يهجرك لمجرد نقاش حول موضوع ما , او يهجم عليك بسبب عقيدة ما ... ؛ وان جرحك لا يعتذر , وان أخطأ بحقك لا يندم , وهذا النوع من الاشخاص لا يصلح لأي نوع من العلاقات ؛ فهو شخص في عدة شخصيات فتارة تجده يمتلك شخصية مثالية وطيبة , ومرة ناكرة للجميل و جاحدة بالمعروف ، و تارة متسامحة وكريمة و تارة حقودة وحسودة و لئيمة – نعم لك الحق في ان تعيش بمئة شخصية فهذه حياتك الخاصة وانت حر بها ؛ ولكن بشرط عدم الاضرار بالآخرين - ؛ لذا تجد الاشخاص المزاجيون يعانون كثيرًا في الحصول على حياة هادئة و بناء علاقات دائمة وايجابية مع من حولهم ... ؛ بل هو يمتلك تسعة وتسعون مزاج في الدقيقة الواحدة فتجد صعوبة في فهمه و استيعاب ما يريد ... ؛ لا يستطيع فهم نفسه و لا يستطيع التحكم في تصرفاته ؛ فمن الصعب التعامل مع شخص تتحكم به العواطف والمزاجية الحادة في كل وقت ومكان !!
وظروف الحياة ومصاعب العمل واحوال الشخص السيئة ؛ لا تتبرر له المزاجية الحادة ؛ فكلنا في هذه الحياة نعيش أيام جيدة وأيام سيئة ، وظروف سعيدة و ظروف تعيسة، وكل ذلك له تأثيرات على نفسياتنا إيجابا وسلبًا ... ؛ لكننا مع ذلك : نصبر ونتكيف مع الظروف ؛ و نحاول السيطرة على عواطفنا وضبط مزاجنا ؛ بحيث نحرص على عدم الحاق الاذى المادي او المعنوي بالمحيطين بنا والمقربين منا ؛ فمن القبح والانانية ان تعامل الناس والاصدقاء حسب تقلبات مزاجك وتغيرات احوالك ؛ فالناس ليسوا عبيدا لديك ... ؛ والشيء بالشيء يذكر : كانت تربطني بأحد الاصدقاء القدامى علاقة وطيدة ومبنية على الاحترام المتبادل , وقد بدأت بمشروع ثقافي يتقاطع بعض الشيء مع افكاره الهلامية والمتخشبة – والتي اجزم بكونه نفسه لا يعرفها حق المعرفة ولا يستطيع تحديد معالمها المعرفية والعقدية - ؛ واذا بصاحبي الوفي وصديقي القديم يهجرني رويدا رويدا – انسحابا تكتيكيا - ؛ ويلملم اوراقه شيئا فشيئا , ويغلق خط هاتفه , وكان ختامها هجران لاعقلاني ومقاطعة مرضية ؛ مبنية على اوهام وعقد نفسية ونرجسية .
وبما ان الناس المتقلبة والاشخاص المزاجيين لا يمتلكون مشاعر ولا أحاسيس مستندة على القيم والمبادئ الثابتة او قائمة على اسس التفكير
المنطقي والعقلانية ، فتوقع منهم كل شيء سلبي وضار ؛ لان حياتهم قائمة على المزاجية الحادة .
فأن كنت تريد اصلاح المجتمع فأبدأ بنفسك اولا ولتكن علاقاتك الاجتماعية وقراراتك مبنية على المبادئ والعقلانية كما قال الكاتب أحمد الشقيري ؛ وليست على العواطف المتقلبة والمزاجية الحادة والمشاعر المرضية والعقد النفسية ؛ فأحرص كل الحرص على ان لا تعكس مزاجك السيء او مشاعرك السلبية على حياة وفعاليات وانشطة اصدقاءك واهلك والمقربين منك بل ومجتمعك ؛ ولعل من اروع ما قاله حكيم العراق الامام علي بهذا الخصوص - الابيات الشعرية المنسوبة له - :
فَإن تَسأَلِني كَيفَ أنتَ فإنَّني ××× صَبورٌ على رَيبِ الزّمانِ صَعيبُ
حَرِيصٌ على أن لا يُرى بي كَآبة ××× فَيشمتَ عادٍ أو يُساءَ حَبِيبُ