سؤال كبير ومهم يطرح نفسه على رأس كل مراقب عاقل: ((هل بريطانيا دولة (علمانية) حقًا وبالفعل وعلى الحقيقة!؟ أم أنها - في حقيقتها وهويتها - دولة (مسيحية) لكنها في الوقت ذاته هي دولة ليبرالية وديموقراطية عريقة بالفعل!؟)) إذ لا يمكن لدولة علمانية تفصل بين الدولة والدين ولا دين لها أن تحدد ما هي (ديانة الملك) (رئيس الدولة) بل وتحدد الطائفة الدينية التي يجب أن يكون عليها!!؟؟ فأي دولة تفعل
ذلك قطعًا هي ليست (علمانية)!!
***************
من خلال متابعتي لمراسم تتويج الملك (تشارلز الثالث) كملك بريطاني سواء من حيث ((المراسم الدينية)) أولًا من داخل الكنيسة على يد رجال الدين، ثم من حيث ((المراسم الشعبية)) التي تلت المراسم الدينية، وكذلك من خلال معيشتي واستيطاني في دولة بريطانيا كمواطن بريطاني يتمتع بكل المزايا الإجتماعية والمدنية والسياسية للمواطنة ومن خلال اطلاعي الواسع على تاريخ نشوء وتطور (الديموقراطية الليبرالية) كفكر وكتطبيق يمكنني أن أؤكد على الحقائق التالية:
(1) الشيء المؤكد الأول أن بريطانيا كمملكة متحدة عريقة لازالت تتمتع بالقدرة على ابهار العالم بخصوصياتها التي لا يشاركها فيها أحد !!
(2) الشيء المؤكد الثاني أن بريطانيا مملكة عريقة جدًا ترتبط عراقتها بالعائلة الملكية ذاتها التي عمرها (1000) عام وأنها هي (أم الملكيات البرلمانية الدستورية) كما أنها (أم الديموقراطية الليبرالية) في العالم!
(3) الشيء المؤكد الثالث أن المؤسسة الملكية البريطانية المتجسمة في العائلة المالكة هي جزء أساسي من مؤسسات دولة المملكة المتحدة ولا يمكن تصور استمرار وجود هذه (الدولة/ المملكة المتحدة) المكونة من ثلاث أقطار (انجلترا واسكوتلندا وويلز) ونصف قطر ( شمال ايرلاندا) بدون وجود هذه العائلة الملكية العريقة التي هي رمز الاتحاد والاستقرار والعراقة لهذه الدولة، ولا يخالجني أدنى شك في أنه إذا تخلت بريطانيا عن هذا النظام الملكي فإنها كدولة ومملكة متحدة ستنتهي وتتحلل إلى مكوناتها القطرية الأساسية، لتحل محلها أربع جمهوريات مستقلة هي (جمهورية انجلترا وجمهورية اسكوتلندا وجمهورية ويلز وجمهورية ايرلاندا الشمالية)!!، فالتاج البريطاني والعائلة المالكة هي أساس الاتحاد البريطاني وأساس الوحدة السياسية للمملكة المتحدة، والتي إذا انتهت انتهى معها الاتحاد البريطاني وأصبح في خبر كان!!
(4) الشيء المؤكد الرابع أن الرافضين للنظام الملكي في بريطانيا لا يزيد عددهم عن 22% على أقصى تقدير ، معظمهم من الشيوعيين واليساريين أو من الطوائف المسيحية غير البروتستانتية أو من الانفصاليين في ويلز واسكوتلندا وايرلندا الذين يدركون أن انهاء النظام الملكي هو الخطوة الأولى الضرورية لإنهاء دولة الاتحاد البريطاني (المملكة المتحدة) وبالتالي تحقيق حلم الانفصال والاستقلال الوطني عن دولة (انجلترا) وعاصمتها (لندن) التي هي أساس الاتحاد !!
(5) الشيء المؤكد الخامس أن بريطانيا في حقيقتها ليست (دولة علمانية) بالمعنى الدقيق الصارم للكلمة والذي من خلاله يتم ((فصل الدولة عن الدين بشكل تام بحيث تكون الدولة لا دين لها)) (!!؟؟)، فالحقيقة الواضحة الملموسة أن بريطانيا دولة (مسيحية)، وليست مسيحية وحسب بل هي دولة مسيحية يجب أن يكون ملكها من (الطائفة المسيحية البروتستانتية)(!!) لا الكاثولوكية ولا غيرها، بل ويجب يتم تنصيبه كملك داخل الكنيسة - بطقوس مسيحية - على يد رجال الدين المسيحيين - كما شهدنا على الهواء في مراسم التتويج - حيث يؤدي الملك وهو يضع يده على (الإنجيل) قسم الولاء لرب المسيحيين (المكون من الثالوث المقدس: الآب والإبن وروح القدس!!) وكذلك قسم الولاء للكنيسة الانجلكانية كملك مسيحي بروتستانتي وكذلك قسم الولاء للشعب البريطاني، ثم القسم بالولاء لمبدأ الحقوق الفردية والتسامح الديني وحماية الحرية الدينية للبريطانيين.
فالشيء الذي لا يخالجني فيه أي شك هو أن بريطانيا التي علّمت العالم ((الديموقراطية الليبرالية)) ليست ((دولة علمانية)) بالمعنى الحقيقي الدقيق لهذا المصطلح بل هي ((دولة مسيحية)) لكنها ((دولة مسيحية ليبرالية وديموقراطية)) عريقة، وللقيم الفردية فيها تاريخ عريق وعميق، وهذا يعني أنها دولة ((متسامحة)) بشكل كبير جدًا مع ((حقوق وحريات وخصوصيات الأفراد غير المسيحيين)) ومع ((حقوق وخصوصيات الأقليات)) غير المسيحية فضلًا عن احترامها لحقوقهم الشخصية وحرياتهم الدينية سواء كانوا يحملون الجنسية البريطانية أو يقيمون في ظلها اقامة دائمة..... وهذا هو أساس الفلسفة الليبرالية، ((التسامح الديني + احترام حقوق وملكية وحرية وخصوصية كل فرد)).. فهي تعطي كل الأفراد البريطانيين كامل الحرية الدينية في اختيار دينهم ومذهبهم إلا (( فرد) واحد غير مسموح له بتبديل دينه أو مذهبه وهو (الملك) !!، فالملك يجب أن يكون مسيحيًا (بروتستانتي) وإلا لن يكون!!، فهل هذه دولة علمانية حقًا !!؟؟؟
هذه هي بريطانيا كدولة مسيحية ليبرالية عريقة حتى من قبل أن تكون دولة ديموقراطية عريقة.... وكل من يقول لكم أن بريطانية دولة (علمانية) إما أنه يكذب عليكم، أو أنه لا يفهم حقيقة وطبيعة وتاريخ وواقع بريطانيا كما هي ولا يفهم الفرق الجوهري بين ((العلمانية)) وبين ((الليبرالية))!!، فالعلمانية ليست بالضرورة ليبرالية فقد تكون شمولية، والليبرالية ليست بالضرورة علمانية فقد تكون دينية!، فالملك البريطاني (المسيحي البروتستانتي) لا يشغل منصب رئيس الدولة الدائم مدى الحياة فقط بل وأيضًا يشغل منصب رئيس الكنيسة الانجليزية المستقلة عن (بابا الفاتيكان) الكاثوليكي منذ قرون كما أن لرجال الدين 23 مقعدًا في مجلس اللوردات يشغلونه بشكل دائم بتعيين من الملك رئيس الكنيسىة!..... ولكن كون بريطانيا دولة مسيحية لا يعني أنها دولة (ثيوقراطية) يحكمها (رجال الدين) بل هي (دولة مدنية) يحكمها (الساسة) المدنيون، فهي مع كونها (دولة مسيحية) وكونها تقوم على أن يكون على رأسها (ملك مسيحي بروتستانتي) وجوبًا لكنها تظل ((دولة مسيحية مدنية ليبرالية ديموقراطية عريقة)) تحترم الحريات الشخصية للأفراد وخصوصيات الاقليات غير المسيحية كما تحترم ارادة الشعب البريطاني فيما يتعلق بحكم وإدارة الدولة!، فالملك هو رمز الوحدة والاستقرار والعراقة، والبرلمان هو أداة الديموقراطية، ومع ذلك فهي ليست دولة (علمانية) كفرنسا مثلًا !.
قد يقول قائل بل هي دولة علمانية لأن رئيس وزرائها (هندوسي)؟
وجوابي يمكن لرئيس الحكومة أن يكون من أي دين، فهذا لأن بريطانيا كما قلنا هي دولة (ليبرالية) متسامحة مع الافراد ، لكن نحن لا نتحدث عن الافراد بل على رأس الدولة (!!!) (الملك) فهو يجب أن يكون مسيحيًا (بروتستانتي) أي ليس حتى مسيحيًا (كاثوليكي) !!!، فكيف بهندوسي أو مسلم !!؟؟ الدولة العلمانية لا تحدد ((دين رئيس الدولة)) فكيف تقولون أن بريطانيا بأنها دولة علمانية وهي تحدد دين رئيس الدولة (( الملك)) بل وتحدد حتى مذهبه الديني !!؟؟ لا يمكن لدولة علمانية حقيقة وجادة تتناغم مع نفسها ومنهجها السياسي العام أن تكون كذلك!.... رئيس الوزراء الاسبق (كاميرون) قالها عام 2012 بشكل صريح من وسط الكنيسة : (( نحن دولة مسيحية وبلد مسيحي ، يجب علينا أن نقول ذلك ولا نخجل من ذلك ))!!
هذه هي الحقائق الأساسية التي يجب أن نضعها في اعتبارنا إذا أردنا أن نعي ونفهم حقيقة وطبيعة هذه الدولة العظيمة والفريدة والمميزة التي تجسمت فيها العراقة والمحافظة على التراث الوطني كما تجسمت فيها أشهر النظريات والكشوفات العلمية والثورة الصناعية والعقلانية والليبرالية والديموقراطية كما تحولت في حقبة ما إلى الإمبراطورية التي لا تغرب عنها الشمس إلى نهاية الحرب العالمية الثانية تغزو وتفتح وتستعمر البلدان وتمد نفوذها وتضع يدها على ثروات تلك البلدان كما تفعل أية امبراطورية عبر التاريخ سواء كانت مسيحية أو اسلامية أو يهودية أو علمانية أو ملحدة!، أي كما فعلت الامبراطورية والخلافة الاسلامية في عهدها العربي أو التركي، فهذه هي طبيعة الدول العظمى والكبرى في ساحة التنافس والصراع الدولي عبر التاريخ على النفوذ والثروة والسيطرة، ولا أعتقد أن ذلك سينتهي خلال الزمن المنظور وربما إلى يوم القيامة!!، فهذا الصراع تارة يكون بأدوات ناعمة وخبيثة ، وتارة يكون بأدوات خشنة سافرة ودموية!!.... فالأمم الكبرى (القوية والذكية) ستظل تسيطر وتعلو على الأمم (الضعيفة والغبية) وتتحكم فيها بالتي هي أحسن أو بالتي هي أخشن!!، فالطرف الأقوى والأذكى سيظل يسيطر على الطرف الأضعف والأقل ذكاءً والأقل عقلًا في المجتمع الدولي إلى ما شاء الله!!... الواقع أمامكم والتاريخ من خلفكم كدليل على ما نقول يا أصحاب العقول!
***********************************
أخوكم البريطاني المسلم (الليبرالي) العربي المحب
الداعية لمشروع (عقلنة) و(لبرلة) و(دمقرطة) الدول العربية المسلمة بعيدًا عن (الأصوليه العلمانية) و(الأصولية الدينية)، كمشروع تحديثي واقعي ووسطي وسط هذا الهشيم وكل هذا الفشل العربي العظيم!!