طيلة فترة الحكم البعثي التكريتي الصدامي ؛ لم يهدأ العراق من صخب ( السماعات الخارجية ) وضوضاء المسيرات الجماهيرية  والتظاهرات الاستعراضية , فقد كان  الطلبة والعمال والموظفون والبعثيون  يجبرون  على التظاهر والخروج  في مسيرات صاخبة ،  يرفعون فيها  أعلام العراق وفلسطين وصور صدام ... ،و  ينددون بالاحتلال الاسرائيلي تارة وبالإمبريالية تارة اخرى , وبالأمريكان ثالثة , وبالشعوبية  والرجعية والطابور الخامس رابعة ؛ والفرس المجوس  ... الخ ، مع ترديد الشعارات البعثية والصدامية والاشادة بالقيادة البعثية التكريتية الصدامية ... ؛ وكانت ال ( لافتات تحمل شعارات رنانة من قبيل : صدام اسمك هز امريكا ) و البعثي الكهل وسط الحشود يصرخ بأعلى صوته أمام الميكرفون ؛  فاتحاً فمه على مصراعيه ، وقد تشنج جسمه وعرق بدنه : (( بروح بالدم نفديك يا صدام )) .

وكل هذه التصرفات والصرخات والاهازيج والشعارات  الرنانة والخطب الطنانة والحركات التمثيلية و ( الهوسات ) الاستعراضية ولاسيما في عقد  الثمانينات والتسعينات   ؛ و التي ربما ينخدع بها الكثيرون من ابناء الشعوب العربية وغيرها  ؛ فيظنونها حقيقية ، تنبع من أعماق  المشاعر الشعبية ، وأن هذه الحشود  العراقية الشاخصة أمامهم يعنون ما يقولون ، ويقصدون ما يفعلون... ؛  وربما لا يصدق الكثيرون لاسيما من ( القومجية العرب ) والطائفيين السنة ؛  أن ما يرون يدل تمام الدلالة على عكس ما يتراءى لهم، ويبدو لأنظارهم ؛ وانها تخفي خلفها اكراهات شخصية  وارهاصات سياسية قلقة واضطرابات اجتماعية ... الخ . 

في حين كان العراق يعيش الصراعات والازمات والحروب والمجاعات والتخلف والانتكاسات والجرائم وانتهاكات حقوق الانسان ومئات المشاكل الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والصحية والتربوية والتعليمية المستعصية ... الخ ؛ والتي كان يقف صدام وبعثه و ازلامه وزبانيته ازاءها موقف العاجز والفاشل والجاهل والانفعالي الذي لا يحسن سوى الصراخ والتوتر والتهور في اتخاذ القرارات الهوجاء  او اللامبالاة  ؛ ولان هذا النظام الهجين لا يستطيع حل هذه المشاكل المختلفة بالطرق العلمية والواقعية -  وان كنت اعلم علم اليقين بأن وظيفة هذه الانظمة العميلة هي ايجاد الازمات بل والعمل على تكثيرها وتفريخها واستمراريتها لإصابة المجتمع العراقي بالشلل التام والعجز الكلي وهذا ما تحقق لهم فيما بعد - ؛ فأنه  يلجأ إلى أساليب ملتوية سلبية وطرق  خادعة و وهمية  ؛ من خلالها يستطيع تنفيذ الاجندات المشبوهة والمنكوسة ؛ وفي الوقت نفسه  تخفف عن الجماهير  بعض ما يكابدوه  من ازمات وصراعات نفسية , وما يعانون منه من مشاكل اجتماعية واقتصادية وامنية ... الخ ؛ كي ينشغل الشعب بهذه المسرحيات ولا يشعر بالظلم والغبن والحيف الذي لحقه بسبب هذا النظام الاجرامي الارهابي ... ؛ بالإضافة الى اشغاله والهاءه بالسيناريوهات المختلفة عن طريق وسائل الاعلام المختلفة والتدليس والتزييف الثقافي ... ؛ كي  يتجاهل المواطن مشاكله أو يتناساها أو ينكرها أو يستصغرها أو يموه عليها أو يتنصل منها بإلقاء اللوم على نفسه ومجتمعه  لا على  حكومته الخائنة ونظامه السياسي العميل ... ؛ لان مواجهة المواطن للنظام وكشفه للحقيقة واللعب مع النظام على المكشوف كما حصل في انتفاضة عام 1991 الخالدة ؛ قد يكلف المواطن نفسه بل ومستقبل اهله جميعا ؛ وبسبب هذه التداعيات والارهاصات ارتمى بعض المواطنين في اتون فعاليات ونشاطات حزب البعث المجرم بينما انخرط البعض الاخر في الممارسات الدينية , وراح طرف ثالث يقف على التل كالمشلول لا هو الى هؤلاء ولا الى أولئك مذبذب بين بين ... الخ ؛ ومن المؤكد ان هذه السلوكيات لا تحل الازمات بقدر ما تعقدها وتزيد من بقاءها الا انها تقي المواطن شر المواجهة وتداعيات واثار الصدام مع النظام ؛ وهذه الاساليب تسمى في علم النفس بالحيل الدفاعية ؛ لأنها تدفع عن المواطن  غائلة القلق والعجز والرثاء للذات والاحباط والجمود والركود والشلل ... الخ ، وتهبه شيئاً من الحركة والحيوية والعمل  ... الخ ؛ و الراحة الوقتية ، وإن تكن راحة وهمية حتى لا يختل توازنه النفسي ولا يفقد امله في الحياة . 

و لكن حين تزيد هذه الأساليب  والحيل النفسية الدفاعية  عن حدودها المقبولة والمعقولة ، وينطبع عليها الفرد تؤدي به إلى الوقوع في الأمراض النفسية أو العقلية، أو تتحول هي إلى مرض في ذاتها ... ؛ بسبب التعويض الزائد والكبت والإسقاط والتماهي والنكوص ...الخ ؛ لذلك كانت مشاهد رؤية المجانين والمختلين عقليا والمرضى النفسيين في مناطق الاغلبية العراقية أمرا مألوفا جدا ؛ فقد كانت الحملات المنكوسة تستهدف الاغلبية العراقية بالدرجة الاولى ثم باقي مكونات الامة العراقية . 

وبما ان النظام الهجين خسر في كل المعارك وفشل في الحفاظ على شمال العراق او الاراضي العراقية التي تنازل عنها في خيمة العار ( خيمة صفوان ) ؛ وردة فعل الجماهير العراقية الحرة الابية ضد ادعاءات وشعارات النظام الفارغة عام 1991 ؛ صار يعاني ومنذ حرب الخليج الثانية معاناة شديدة جراء انكشاف حقيقة النظام للعراقيين والعرب والعالم ؛ فقد تبخرت كل شعارات صدام العروبية والبطولية والثورية ... ؛ وضاعت شعارات البعث القومية , الا ان النظام الهجين لا يستحي ولا يخجل من هذه المخازي والعار التاريخي بسبب خسائره ومجازره ومقابره الجماعية ... ؛ فراح يلجأ الى تلميع صورته التي انكسرت ومرغت في التراب ؛ من خلال الاعلام المزيف والاحتفالات السمجة والمظاهرات الاستعراضية والحركات والتصريحات البهلوانية , والهتافات الحماسية المصطنعة ... ؛ علما انهم جاؤا بقطار امريكي للحكم كما صرح احدهم بذلك ... ؛ لذلك لو بقى النظام البعثي التكريتي الصدامي الف عام لما سمعنا منه غير الشعارات السمجة والهتافات الكاذبة والمزيد من المسرحيات السياسية وحروب الوكالة الخاسرة والتظاهرات البائسة والمسيرات الاجبارية واعمال السخرة والتصرفات الهوجاء العبثية ؛ فالبعث يساوق العبث .