لا شك عندي أن (الأنا) المفردة هي محور الشخصية الانسانية، بل هي الجوهر الدائم المستمر الحاضر والثابت من النفس والشخصية الانسانية ، الانسان الفرد ، أما ما حولها من نفس وعقل وجسم ولحم وعصب ودم ومعارف وعواطف وممتلكات ومقومات الشخصية فهي متغيرات! ، البعض يعبر عن هذه (الأنا) الواعية الحاضرة بمصطلح (الذات) أو (الوجدان) والبعض يطلق عليها اسم (الروح) التي هي جوهر الانسان، و(الأنا) ، بهذا المفهوم ، هي مركز الشعور بالوجود (أنا موجود في هذا الوجود!) وهي مصدر الشعور بالهوية الذاتية (أنا هو أنا ! ، أنا لست غيري!) وهي منبع الحضور الوجداني الآني المستمر (أنا هنا الآن ،في هذا الزمان في هذا المكان !) ، هذه هي (الأنا) التي هي جوهر النفس الانسانية ومحور الشخصية ، وهي مسألة فلسفية شديدة التعقيد تتعلق من جهة بفلسفة النفس والبحث في ما هيتها ومكوناتها وأجهزتها وطباعها وطبيعتها ، ومن جهة أخرى هي متعلقة بالفلسفة الوجودية التي محورها كما فهمت يدور حول المطالب الوجودية التالية :

(1) البحث عن الذات !؟.
□□□□□□□□□□□□□□□ 
فالوجودي انسان يبحث عن ذاته ويسعى لمعرفة حقيقة وجوده الانساني كفرد ولسان حاله يقول : (من أنا !؟ ، وماذا أفعل هنا !!؟) ، والبحث عن الذات هو بحث معرفي وفلسفي أي ان الوجودي هنا يسعى الى معرفة ذاته وحقيقة وجوده انطلاقا من التعرف على مكونات وحقائق ذاته ، ومنهج التعرف على الذات هو منهج عرفاني لا يقوم على البرهان المنطقي والحسي والعقلي فقط بل يقوم أيضا على الوجدان واستبطان النفس والتجريب الذاتي! ، ومفهوم استبطان الذات اي معاينة الذات بالذات! ، فالبحث عن الذات ينطلق من الوجدان ، من العالم الداخلي لا من العالم الخارجي ، يقوم على تحسس الذات في الباطن ومن الداخل ، هناك في ذلك الفضاء الداخلي النفسي الغامض حيث تقبع (الأنا) وراء وتحت كل هذه الأغطية والتراكمات وخلف كل هذه الستائر ! ، كما لو ان الباحث الوجودي يغوص بعقله وحدسه في أعماق نفسه محاولا اكتشاف بواطن وأسرار ذلك الوجود الداخلي و العالم الخفي غير المرئي من الانسان، يغوص في اعماق محيطات النفس محاولا اكتشاف ذاته وتلمس الطريق نحو مركز الشعور بالذات ومنبع الحضور الوجداني (انا هنا الآن !!) ، وشعاره في هذا السعي لاكتشاف الذات قول الفيلسوف الاغريقي الشهير (سقراط) : (اعرف نفسك !) .

(2) تحرير الذات وتحقيق استقلالها الذاتي !؟.
□□□□□□□□□□□□□□□□□□□□□□□□□□□□□□
فالوجودي في هذه المرحلة يجاهد كل الضغوطات التي تحاول تحويله الى مجرد أداة طيعة عمياء تحركها قوى قاهرة متحكمة تسعى الى قهره وسلب وعيه وارادته وحريته ، وتتمثل هذه القوى الجبرية القهرية أولا في غرائز ومطالب الجسم وشهوات ومخاوف ووساوس النفس ، والمعارف المزيفة التي زرعها المجتمع في عقله في طفولته!، وتتجسد ثانيا في الواقع المادي وسلطات المجتمع العرفية والرسمية والظروف الاجتماعية والعائلية والشخصية التي تحاول تطويعه وتشكيله في قالب معين وفق متطلبات مصلحة الجماعة والدولة والقطيع البشري ليصبح ومن حيث لا يدري مجرد (دمية) في مسرح الحياة اليومية يؤدي دوره المطلوب منه وسط كل هذه الدمى المتحركة من حوله ! ، بل وأحيانا تحاول هذه القوى والظروف المحيطة به تحطيمه وتحويله الى بقايا انسان او مجرد حيوان أو مجرد أداة ورقم في قبضة الدولة ! ، فالعارف الوجودي في هذه المرحلة من حراكه الوجودي يسعى الى تحرير ذاته وتحقيق استقلاله الكافي عن الذوات الاخرى وعن سطوة وغريزة القطيع البشري بل وعن شهوات ومخاوف النفس وغرائز الحيوان المتعلق بتركيبته الجسمانية !، وعندما نقول (الاستقلال الذاتي) لا نعنى الاستقلال التام والمطلق فهذا مطلب مثالي طوباوي مستحيل بل المطلوب هو تحقيق القدر الكافي من الحرية والاستقلالية ، حرية الأنا واستقلال الارادة الواعية ، بقدر كاف ومريح ، عن سلطان الجسم وشهوات ومخاوف النفس وسلطان الواقع الاجتماعي والسياسي والاقتصادي والمادي !.

(3) اثبات الذات وتأكيد تميزها وتفوقها وجدارتها في الحياة! .
□□□□□□□□□□□□□□□□□□□□□□□□□□□□□□□□□□□□□
فالوجودي خلال هذه المرحلة الأخيرة من التجربة الوجودية لا يكتفي ان ينتزع وعيه وارادته وحريته ووجوده الذاتي من الواقع المادي والاجتماعي والسياسي والاقتصادي بل والحيواني الغريزي الذي يحاول استعباده وتشكيله وفق متطلبات ومصالح القطيع القومي والجنس البشري أو وفق ملابسات وموافقات الظروف التي تحيط به من كل جانب ، بل هو ، مع تحقيق قدر كاف من الاستقلالية الفردية وحماية عالمه الخاص ووجوده الذاتي ، يحاول اثبات وجوده الفردي وتميزه بل وتفوقه في محيطه الاجتماعي في جانب من جوانب الحياة وعادة يكون هذا الجانب هو (الجانب الفكري والادبي والفلسفي والمعرفي والفني) ولكن هذا المطلب إنما يشمل فقط (الوجودي الايجابي الواقعي الفعال) الذي لا يختار طريق الانطواء الذاتي أو يفر الى الطبيعة والبرية ويهجر المدن والقطيع البشري بشكل نهائي في محاولة للفوز بحريته وذاته واستقلاله الفردي والذاتي من خلال العيش الفرداني في البراري معتزلا الناس والدولة وزحام وضجيج حياة المدن وتعقيدات الحياة الحضرية الحديثة وايقاعها السريع والرتيب الذي يلتهم عمر ووعي وحس الانسان فيفقد ذاته وسط الضجيج والعجيج والغبار ويصبح مجرد دمية وانسان آلي مبرمج يتحرك وفق العادة اليومية والغريزة الحيوانية والبرمجة الاجتماعية والسياسية العامة !! ، فهذا الانسان المهاجر للبراري المعتزل للمجتمع والمختار للعيش بطريقة (البوهيميين) ومجموعات (الهيبز) هو انسان وجودي ، أي نعم ، لا شك في ذلك ، ولكنه وجودي فار من المعركة الوجودية!! ، وجودي سلبي ورومانسي منهزم ! ، أما الوجودي الايجابي الواقعي الفعال يظل في ساحة المعركة وسط المجتمع محاولا تحقيق المعادلة الصعبة !! ، اي تحقيق وجوده الشخصي والمحافظة على استقلاله الذاتي وسط الناس محاولا التأثير في اتجاه الواقع الحي المتحرك نحو ايجاد نظام اجتماعي صحيح ومريح لا يسحق ذوات البشر ولا يطمس فردانيتهم ولا يلغي استقلاليتهم الذاتية ، ولا شك ان هذا هو الخيار الصعب والتحدي الحقيقي ولكن الوجودي الايجابي يختار هذا الطريق الصعب والشاق ، والغالب يكون جهاده وتميزه من خلال ميدان المعرفة والفكر والثقافة والاخلاق والأدب والفن، ولا يكتفي بهذا وحسب بل يحاول اثبات تميزه وتفوقه كانسان فرد مستقل وسط الجموع من خلال هذا الميدان ، بل احيانا يثبت جدارته حتى في ميدان التفوق المادي ، داخل المجتمع ، فهو يدرك ان (المال) سلاح ضروري في معركته الوجودية وعامل مهم في تحقيق الحرية الفردية والشخصية والاستقلالية الذاتية ولكنه لا يتحول ابدا الى اداة وعبد للمال ، فالمال عنده وفق عقيدته الوجودية خادم لا مخدوم ، وسيلة لا غاية ! ، فهو يطلب المال بالقدر الذي يحقق له الكفاية والراحة والاستقلالية الفردية ، فالمال هنا مجرد اداة ووسيلة انما الغاية هي ايجاد ذاته ومعرفتها وتخليصها من التبعية العمياء والجبرية وكل وسائل القهر والتطويع الاجتماعي الواعي المقصود او التطويع الظرفي الأعمى للأفراد غير المقصود! ، فهو يطلب المال لأنه يساعده في تحرير حاجاته الاساسية وتوفيرها وتحقيق استقلاله الذاتي دون ان يتحول الى عبد وخادم لهذا المال ، فالمال هو الخادم له ، وهو ، اي الفرد الوجودي ، السيد المخدوم ! ، هذه هي نظرة الوجودي الايجابي للمال ، فالوجودي لا يمكن بحال من الاحوال ان يكون رأسماليا هدفه الثروة والتفوق والعلو المادي في الارض واثبات الذات من خلال شهوة التملك وزيادة قوته الاقتصادية وقدرته الشرائية في المجتمع!، فالوجودي والرأسمالي على النقيض ومع ذلك فالوجودي يكره التسول والفقر والعمل اليدوي المأجور المرهق الرتيب الذي يلتهم كل وقته وجهده وطاقته الروحية في سبيل لقمة العيش ولا يترك له الوقت الكافي والطاقة الكافية للقراءة والاطلاع وتنمية معارفه والتفكر والتدبر والتأمل الفلسفي والبحث المعرفي واكتشاف ذاته، ولا الوقت الكافي والجهد الكافي للكتابة والانتاج الفكري والأدبي والفني!.

هذا ، اذن ، هو محور الفلسفات والتجارب الوجودية وهذه هي أهداف وتطلعات الوجوديين الحقيقيين الجادين وليس الوجوديين المنتحلين للوجودية كموضة او موجة معادية للواقع الاجتماعي والسياسي والحضاري ممن يخلطون بين الوجودية كفلسفة ايجابية وجادة وبين حرية التسيب والتعطل والتسكع من الفاشلين والمنهزمين وعشاق التحلل والتهتك والفوضى والشهوانية العمياء ممن يرتدون مسوح الوجودية لتمرير تحللهم وتبطلهم وفشلهم والوجودية منهم براء!، فالوجوديون قوم جادون مجاهدون أحرار يبتغون استعادة ذواتهم من رتابة الحياة اليومية واملاءات وقوالب المجتمع والدولة بل وسطوة غرائزهم وشهوات أنفسهم الحيوانية والانانية العارمة ، هؤلاء هم الوجوديون الحقيقيون والجادون والمجاهدون سواء من كان منهم مؤمنا بالله والغيب واليوم الآخر ، أو كان من الملحدين، فالهدف العملي من المعرفة والفلسفة والتجربة الوجودية هو استعادة الانسان لذاته الفردية من سطوة وتغول الآخرين وقبضة المجتمع والدولة والحياة المدنية واليومية الرتيبة المعتادة ، فهم يحاولون جهدهم استعادة ارواحهم وذواتهم ووجودهم الذاتي الحقيقي العميق وسط أوهام وأصنام وكهوف العقل وركام الدنيا وحطام الأحلام وقسوة الآلام وضياع الأعوام ومشاغل الحياة اليومية وضجيج وعجيج الناس وضغوطات الواقع الاجتماعي والمادي وضغوطات حاجات الجسم وغرائزه الحيوانية وضغوطات ونزوات القطيع البشري الجماعي الذي وجد نفسه فيه كفرد من افراده! ، هكذا يحاول الوجودي وسط هذه الامواج المتلاطمة والتيارات الجارفة التي تحمله كما لو انه ريشة في مهب الريح او قارب ضعيف وصغير وسط أمواج بحر هائج ان يبحث عن ذاته ابتداء بمعرفتها ثم المجاهدة لانتشالها من ضغوطات الجسم والنفس وضغوطات المادة والاقتصاد وضغوطات الدولة والمجتمع القومي ورتابة الحياة اليومية المملة ليشعر بوجوده الفرداني واستقلاله الذاتي كإنسان!.
**********
سليم نصر الرقعي
(*) هذه خلاصة فهمي للوجودية كفلسفة ومنهج حياة وتجربة شخصية كما فهمتها من عدة ادباء ومفكرين يمكن تصنيفهم ضمن الوان الطيف للمدرسة الوجودية ذات الاطياف المتعددة وخصوصا تجربة الكاتب والأديب والباحث الوجودي البريطاني (كولن ولسون) الذي يمكن لكل من اطلع على كتبه أن يعرف انه قد خاض تجربة وجودية عرفانية ايجابية شخصية مريرة وجديرة بالاحترام تمكن من خلالها الى حد كبير تحقيق المطالب الثلاثة السابق ذكرها للوجودية وهي البحث عن الذات ومعرفتها ثم تحريرها وتحقيق استقلاليتها داخل الوجود الجماعي مع ادراك اهمية المال في تحقيق الحرية الفردية والاستقلالية الذاتية والاستفادة منه في هذا الخصوص ، ثم اخيرا اثبات الذات وتحقيق تفوقها وتميزها وسط القطيع البشري المتلاطم الامواج ولو من خلال الفكر والأدب والفلسفة (ميدان المعارف الانسانية والانتاج الثقافي والمعرفي والأدبي) !! ، هكذا فعل كولن ولسون ، صاحب كتاب (اللامنتمي) ، في تجربته الوجودية من خلال اطلاعي على كتبه التي هي بمثابة معامل وسجلات تلك التجارب وخصوصا الكتاب الذي روى فيه سيرة حياته (رحلة نحو البداية)! ، وهي تجربة وجودية بشرية كأية تجربة بشرية تتضمن نقاط قوة ونقاط ضعف كما تتضمن ايجابيات وسلبيات ولها ما لها وعليها ما عليها !