يعيد الألم ترتيب الأوراق، والموقف من الوجود، ويحبس المبتلى عن التدفق في نهر الحياة الجاري ليبصر موضع قدميه.
يُصبح الواقع في حبسه يرى الأشياء على ما هي عليه، يعيد له تعريف الأشياء من حوله، ويسحق هرم أولوياته السابق ليشيد آخر ببصيرة لا يشوشها الزيف.
يُبتلى به الشاب فينال خلاصات الحكمة التي وصل إليها الشيوخ بعد المشيب، ويبتلى به الكهل فيجفف منابع الآمال الدنيوية التي لا تذوي.
توقفه رحلة البلاء على عجز المحيطين به، يتعلم من خلالها التخفف من التعلق ببني الطين، ومن التعويل عليهم بأكثر مما تحتمله آدميتهم، ويشيح ببصره إلى السماء.
يبصر محدودية الإنسان وضعفه وهشاشته، هذا الارتباك الذي اجتاح تصوراته فور مهاجمة الألم ، وهذا الانفراط المتعاقب لأموره بعد سنين الانتظام، وهذه الآمال والخطط والأحلام التي تهاوت قلاعها شيئًا فشيئًا تحت وطأة البلاء بعد أن شيد قصورها على رمال شواطئ الأيام الهانئة، فجرفتها موجة لم تكن قط في حسبانه.
هذه كلها أطلعته على ضعف تدبيره وأنه لا يقوم بنفسه البتة، وكيف أن رعاية الله وحده ودقائق تدبيره التي كانت تحيط به وتلفه، وحدها ووحدها فقط هي التي كان يجتاز بها الأيام. وعلى حاجته الثاوية في كيانه إلى الإله الكامل في علاه.
وها هنا هبة البلاء الأعظم، والمنحة الأجل التي يتفيؤ ظلالها كل مؤمن سحقه الألم، نعيمَ التعرف عليه سبحانه جل في علاه، وعلى أسمائه وصفاته وأفعاله، وشهود آثار هذه الأسماء في نفسه وفي الوجود من حوله، ذلك النعيم الهائل الذي يغمر الروح فتهون الآلام في مقابله. بل يود المبتلى أن لا بغادر بلاءه لعظيم ما ظفر به من تلك المعاني العظام، وتُفتح له بوابة المناجاة على مصراعيها بعد أن كانت موصدة أيام الرخاء، وقد تراكمت عليها أتربة الغفلة، فيذوق من نعيم الأنس ولذة الضراعة والانكسار والافتقار ما ينقلب به بلاؤه إلى عطاء، ومحنته إلى محنة، وقد ينعم الله بالبلوى وإن عظمت — ويبتلي الله بعض القوم بالنعمِ..
قال ابن عطاء السكندري في حكمه ذائعة الصيت: إنما يؤلمك المنع لعدم فهمك عن الله فيه، ومتى فتح لك باب الفهم في المنع عاد المنع عين العطاء.
اللهم اجعل مقاديرك سبيلًا لنا للفهم عنك، وبابًا لنعيم معرفتك والزلفى إليك، واجعلنا محلًّا لرضاك لا ترى منا ما يسوء، لا تجدنا إلا حيث أمرتنا، صابرين في الضراء، شاكرين في السراء، محققين لمرادك منا ما بقيت الأنفاس.