يملؤه الرعب من فكرة قذفه إلى هذا العالم، يتحسس جسده بأنامله ويتساءل عن هذا الكتلة المرصوصة من العظام واللحم، ثم عن هذا الوعي الذي يرافقها ولا يراه، والذي انبثق ذات لحظة لم يملك السيطرة عليها أو تحسسها حتى، ثم هو يتدفق بالأسئلة على نحو جنوني، يرفع رأسه قليلًا ليشاهد بأم عينيه أشياء لا تنتهي، تعارف الناس على تسمية مجموعة هذه الأشياء كلها بالحياة، عوالم مدهشة نراها ولا نراها من المخلوقات، وشبكات معقدة من التوليف بينها، ومليارات النسخ منه، كل نسخة منها فريدة لا تتكرر، ولها قصتها وعالمها الخاص، ويتفاجأ بعد أول حوار ساذج تبعته حوارات أخرى أقل سذاجة وأكثر جدية أن كل هذه النسخ الكثيرة والفريدة تسأل نفس الأسئلة وتعيش تجربة القلق الوجودي ذاتها مع اختلافات غير مؤثرة في التفاصيل.
يصاحبنه الزمان، هذا الشيء الذي حار الفلاسفة في تعريفه وإدراك كنهه، ويجري عليه قسرًا فلا يتمكن من القبض على اللحظات السعيدة أو الحزينة فيه، ولا الاحتفاظ بالجسد على حالته الحالية بعيدًا عن عوامل التعرية والفناء، ولا الإمساك بهذا الوعي اللزج في حالة صحو واستنارة، ويشاهد الذين حوله يترهلون شيئًا فشيئًا، وتشيخ أجسادهم وأرواحهم أيضًا، ثم ينزلقون في حفر المقابر ويختفون فجأةً هكذا، وينتظره نفس المصير! بوف! هكذا من العدم إلى حياة كثيفة وصاخبة، ثم إلى صمت العدم المطبق مرة أخرى!
يخوض هذا الوجود بكثافة، ويخوضه الناس، وكلهم يسأل من نحن؟ وما القصة؟ وما العمل؟ ولماذا كل هذا؟ وإلى أين؟
وفي خضم هذا كله يصل هذه الحشود الهائلة من الحيارى خبر الكتاب السماوي الخاتم الذي فيه تفصيل كل شيء، كتابٌ واحدٌ فقط، فيه الإجابة التامة على كل الأسئلة وأكثر، كتابٌ نُسجت فيه البراهين والأدلة والآيات الباهرة على غير مثال سابق وعلى نحو بديع يخلب الألباب، كتابٌ يقدم أكثر من الإجابات، ويطعم الأرواح بأكثر مما يسد فاقتها، ويغير حياة صاحبه ويعمرها بالحقائق التي يرى معها الأشياء على ما هي عليه، دون زيفٍ أو بريق خلاب، ويفسر له هذا الوجود تفسيرًا يخرجه من أفق المادة الضيق إلى سعة الغيب الفسيح.
كتابٌ ينفذ به إلى رؤية الجمال في الأشياء وصلتها بالإله العظيم الذي أسهب هذا الكتاب بالحديث الفياض عنه، عن جلاله وجماله وصفاته ذات الحسن والبهاء، وعن أفعاله التي تملأ جنبات القلب بالهيبة والتعظيم.
حديثٌ يكتسح كل عوالم باطنك فيملؤها بالنور، وتحبه حبًا لا يضاهيه حب، وتشتاق معه لتلك اللحظة التي تراه فيها وتروي عطش الشوق الطويل.
كتابٌ فيه تعليمات النجاة، وقصة هذا الوجود، ومعالم الطريق إلى حياة خالدة في نعيم أبدي لا ينتهي.
يتلقف هذا الكتاب، حبل النجاة الأخير لهذه الحشود، ويقبل عليه بشراهة ونهم، ويجد فيه كل ذلك وأكثر، ثم وهو في هذه الحالة من الرواح والبراح يأتيه رجل من أقصى المدينة لا يسعى بطبيعة الحال، لأنه لو سعى لم يكن ليصدق هذه النكتة السخيفة التي تقول بأنه لا صحة لهذا كله، وأنه لا إله ولا أديان ولا كتب ولا ما يحزنون، ويخبره بطريقة درامية، وبتعابير لا تخلو من طرافة يوحي من خلالها أنه حسم الأمر منذ زمن بعيد، أننا قادمون من العدم وإليه صائرون وأنه لا غاية ولا معنى ولا ما يحزنون مرة أخرى، وأن هذه دلالة العقل والتفكير المنطقي السليم، وإلا فهيّا أيها المؤمن الساذج والمقلد الأعمى أرني أدلتك العقلية وأثبت لي صحة ما تقول!
يردد في نفسه: ما هذه النكتة السخيفة، ومن أين يأتي كل هؤلاء المعاتيه، يحك رأسه وهو بتسم ثم يرفع عينيه إليه، وبودّه لو رفعها شزرًا، ويقول له: أوك
يمضي وهو يردد تساؤله القديم: هل حقًا يتعامل هؤلاء مع الوجود بشكل جاد؟
ويستذكر قول الحق سبحانه: بل هم في شك يلعبون