ومن ارقى ما تفوه به الموسيقار العالمي الشهير بيتهوفن : (( الموسيقى أكثر إلهاماً من جميع الحِكم والفلسفة )) نعم قد تعجر الكلمات والمفردات عن التعبير عما يعتمل في  نفوسنا من مشاعر واحاسيس جياشة , بل ان الكلمات  والعبارات احيانا تموت من كثر الاستخدام المبتذل والتافه والكاذب والخاطئ لها , اذ تفقد معانيها ومضامينها  الحقيقية ... ؛ وكذلك هي الحكم قد لا تفي بالغرض احيانا ؛ بينما تقف الفلسفة عاجزة عن ايجاد حلول لما نشعر او نفكر به او نتأمل فيه ... ؛ فعندما تعجز الحروف وتتحول الكلمات الى  قطع من الصخر الجلمود الصماء  وتفقد العبارات دلالاتها ... ؛ عندها يأتي دور الموسيقى للتعبير عن مشاعرنا وافكارنا وارواحنا الهائمة ونفوسنا العاشقة ...  ؛ فعندما تنتهي اللغة تبدأ الموسيقى ...  ؛ وهذا ما اكده  فيكتورهوغو بقوله : (( الموسيقى تعبر عما لا يمكنك قوله ولا تستطيع السكوت عنه )) .

ولم يجانب الحقيقة الكاتب بيورن السويدي عندما قال : (( يجب على الجميع متابعة كل ما هو أصلي في نفسه ... هذا هو الطريق لحياة طويلة في الموسيقى )) فهي لا تكذب كما يفعل البعض بالكلمات احيانا , وانما تعبر عن كل ما هو صادق وحقيقي داخل نفوسنا , فهي تلامس  شغاف قلوبنا ... ؛  فتأسر ارواحنا  وتأخذها بعيدا في عوالم الجمال والوحي والالهام  واللاهوت ... ؛ لذلك  دخلت في بعض الطقوس الدينية ؛ فقد جعل الصوفية من الموسيقى والغناء سبيلاً ووسيلة توصلهم إلى الله، وجعلوا من كلمات العشق والحب، عبارات لمخاطبة الرب، الذي امتزجوا وانصهروا بروحه عُشاقاً أبديين... ,  لم تكُن الموسيقى الهدف، بل كانت وسيلة للامتزاج بروحية الخالق وملكوته، كانت الطريق الذي جعلهم يستقطبون الآخرين ليعيشوا حالة غرائبية مع الله، لتشتهر بعدها هذه الموسيقى، وتصبح نوعاً خاصاً يحتاج إلى حرفية عالية ... ؛ فالموسيقى الصوفية وبحسب تعريف متداول لها، هي تلك الموسيقى التي ابتكرها الصوفيون الأوائل الذين لاحظوا انهم وصلوا مرحلة مهمة من العبادة لله وابتكروها لأغراض روحية يمتدحون من خلالها الرب، ويمتزجون به حباً... .

ونشأة الموسيقى الصوفية لم تكُن عربية، فحسب ما ذكرت الباحثة الاكاديمية الموسيقية اسراء المرسومي "أن الموسيقى الصوفية  ليست عربية، ويقال إن نشأتها الأولى كانت في افغانستان، كما ذكر البعض أن نشأتها كانت في المغرب وباكستان وتركيا، لكل مجموعة من المتصوفين دلائل تؤكد أن نشأة هذه الموسيقى تعود لهم، لكن بكل حال يمكننا تأكيد أن نشأة هذه الموسيقى لاتخرج عن هذه المناشئ الأربعة التي تم ذكرها"...  ؛ ومدارس الموسيقى الصوفية عديدة منها المولوية ، والبكداشية ، والعلوية ، وغيرها ، إلا أن المرسومي تذكر أن "اشهر انواع الموسيقى الصوفية هي المدرسة المولوية والتي كان مؤسسها وعرابها مولانا جلال الدين الرومي، وهو افغاني الأصل، وهي طريقة الصوفية الأشهر".

وانتشرت الموسيقى الصوفية في الوطن العربي بفعل الاحتلال العثماني لمناطق ومدن من الوطن العربي، وبخاصة في بلدان الشرق العربي، والتي ذكرت المرسومي منها "مصر والعراق وبلاد الشام ، وغيرها من مناطق الشرق العربي، وعرفت بطريقة الدراويش"0(1 ) 

وتَدين الموسيقى العربيَّة في نهضتها الحديثة للأجواء الصوفيَّة التي سيطرت على الغناء العربي في أواخر القرن التاسع عشر وحتى منتصف القرن العشرين، حين قاد شيوخ الإنشاد الديني في مصر عملية تطوير الموسيقى العربية، من أمثال، يوسف المنيلاوي (1850-1911)، وسلامة حجازي (1852-1917)، وابراهيم القباني (1852-1927)، وأبو العلا محمد (1878-1927)، سيد درويش (1892-1923)، وزكريا أحمد (1896-1961)... وغيرهم... ؛ وجميعهم كان يسبق اسمه لقب "الشيخ"، وذلك نظراً لارتباطهم جميعاً بالحركة الصوفية وأناشيدها الدينية في الاحتفالات الموسمية والموالد والحضرة الصوفية وغيرها. وفي الموصل كان شيخ الموسيقيين العراقيين، الملا عثمان الموصلي (1854–1923)، قد انتظم في سلك الطريقة الرفاعية، وهو الذي ارتبط أيضاً بالتصوف التركي، فقد سافر إلى إسطنبول عدة مرات وارتبط بالسلطان عبد الحميد، ولا شكَّ في أنَّه أستفادَ أيضاً من تلك الزيارات... ؛  وكان الأتراك يجتمعون للاستماع إلى غنائه في جامع "أيا صوفيا" في إسطنبول. (2)

والرائع في الموسيقى ان حبها  مثل حب الطبيعة - فالوردة أختُ الموسيقى -  ؛ يعد لغة مشتركة عالمية  يمكن أن تتجاوز الحدود السياسية أو الاجتماعية او الجغرافية او الاختلافات اللغوية والدينية والعرقية ... الخ ؛ وصدقت الروائية الإنجليزية   جاين أوستن  عندما قالت :  ((     بدون الموسيقى يبدو لي العالم فارغا ))  ... ؛ نعم فالعالم الذي يخلو من الالحان والنغمات الموسيقية العذبة والجميلة والراقية يعتبر فارغا من معاني الجمال والرقي ؛ فالموسيقى علاج النفوس وهي التي تجعل الانسان يشعر بأخيه الانسان بل وتتعرف الجماعة على ثقافة الاخرى من خلالها ... ؛ كونها تعتبر لغة بشرية عالمية و شكلا فنيا ذو دلالات معنوية متعددة ؛ فقد استخدمت ومنذ القوم في مختلف ميادين الحياة ؛ بدأ من الديانات و قصور الملوك والمعارك العسكرية وانتهاءا بالأحداث والمناسبات الاجتماعية السعيدة  والحزينة على حد سواء ... ؛ ولذا قال  الفيلسوف الفرنسي برغسون : ((  إن المفتاح الوحيد الذي يجعل الليل محتملًا يكمن في الكتب والموسيقى )) ... ,  فالموسيقى هي ملجأ الأرواح التي اضناها القلق الوجودي والنفوس التي اتعبها الزمن ... بل هي كعبة بني البشر جميعا وعلى اختلاف الوانهم وعقائدهم وقومياتهم ... الخ . 

ويقال إن الانطلاقة الأبرز التي عرفتها الموسيقى كانت مع حضارة بلاد الرافدين، حيث ازدهرت لتصبح فناً وعلماً مستقلاً ومرتبطاً مع العديد من الفنون والعلوم الأخرى.(3) ... ؛ وبعدها اضحت الموسيقى ركيزة من ركائز الحضارات الانسانية بل وسمة من سمات الشخصية الراقية والمتحضرة ... ؛ اذ ان  احساسنا بالموسيقى قد يلهمنا  نور الحقيقة  وتتبع الحق  والاحساس بجمال  الكون والطبيعة  ... . 

.....................................................................

  • الموسيقى الصوفية.. حين يقودنا اللحن والكلمة إلى الامتزاج بروح الله / جريدة المدى .
  • الصوفية... أصل حكاية الموسيقى العربية /  محمد كريم .
  • كتاب الدور الوظيفي لفن الموسيقا في حضارة بلاد الرافدين / عطاء رعد ابو الجدايل .