مما لا شك فيه ان الدكتور حسن اوريد يجاري عمالقة المفكرين العالميين في العلوم السياسية، وله وزنه في هذا المجال، لهذا يعتبر هذا الإصدار قيمة مضافة للمكتبة المغربية والعربية، وفخر لنا جميعا.
الكتاب جاء كدراسة سياسية واستراتيجية للأوضاع السياسية والجيوسياسية والعلاقات الدولية في عالم ما بعد كرونا، حيث بات مصير الشعوب دون معالم واضحة، وبذلك فالكتاب لن يأتي لتقديم أي حلول أو توصيات، بل هو تشخيص للوضع الحالي، وتأريخ لهذه الحقبة المميزة من التاريخ البشري
من اجل تشخيص الوضعية السياسية للعالم، كان من الازم التطرق لجميع القوى والتيارات المؤثرة ذات الوزن السياسي في العالم، وعلى رأس هذه التيارات تبرز أمريكا كقوة عالمية عرفت تطورات مهمة خلال تاريخها الحديث، حيث انتقلت بسلاسة من الدولة المسلحة ذات القوة العسكرية الصلبة، الى دولة متقدمة علميا وتكنلوجيا تسير نحو تطوير قوتها الناعمة، وبين القوة الصلبة والناعمة، تبرز قضية الإرهاب كمحرك لدينامية التفاعلات السياسية، خاصة بعد احداث 11 سبتمبر التي قلبت موازين العالم
يتطرق الكاتب لأمريكا بالتفصيل، ويعري عن نقاط ضعف سياسة الرئيس أوباما ومن قبله، اللذين اعتمدوا سياسة مفتوحة بالكامل قوامها نشر العلمانية والثقافة الأمريكية، وفرض السيطرة العسكرية بجميع بقاع الأرض، ثم يأتي الرئيس ترامب ليقلب موازين أمريكا رأسا على عقب، وتبدأ معه حقبة سياسية جديدة قائمة على تفضيل المصلحة الاقتصادية لأمريكا، ونهج سياسة شبه مغلقة، حيث الحد من الهجرة ومن مصاريف نشر العلمانية التي لا تستفيد منها أمريكا شيئا من الجانب الاقتصادي، كما جعل الحماية العسكرية الأمريكية بالمقابل المادي
في فصل أخر تطرق الكاتب إلى الصين كقوة ناعمة وصلبة في الأن ذاته، استيقظت بعد سبات طويل دام مع الرؤساء الأوائل وسياساتهم المليئة بنقاط الضعف، مثل سياسة الثورة الثقافية وغيرها. هناك شيئان يجب التيقن منهما حين نتكلم على الصين، أنها اقتصاد قادم بقوة ومنافس شرس للولايات المتحدة الامريكية في جل القطاعات الحيوية الاقتصادية، وأيضا جغرافيا من خلال احتكار الأسواق، والشيء الثاني فهو أننا امام دولة شبه ديكتاتورية لا تولي أهمية كبيرة لحقوق الإنسان، ما جعلها بعيدة عن التهديد الإرهابي الذي ينشط بجوارها، بفعل سياستها القمعية على مسلمي الاغور.
الحرب الباردة الاقتصادية القائمة بين الصين وأمريكا، قد تتحول إلى حرب حقيقية في أية لحظة، تغرق اقتصاد العالم في أزمات إضافية، روسيا، كقطب عالمي ذو تاريخ عريق، ما زال زئيرها يسمع في العالم ولو أنه بات خافتا، إن الإشكال الذي تعاني منه روسيا هو تركيزها على تطوير القوة الصلبة دون الاهتمام بالقوة الناعمة، وهذا ما منح الصين وأمريكا أسبقية الازدهار، إلا ان روسيا تفرض رأيها رغم ذلك، حيث قالت كلمتها في الحرب السورية، واعترضت طموحات باقي القوى العالمية، قد تبدو روسيا للبعض انها تُحتضر، لكنها ما تزال صلبة في الواقع
أوروبا، أو الرجل المريض، مهد جل الحضارات البشرية، أي موقع تحتله الأن في الساحة السياسية العالمية؟ لقد شهد الاتحاد الأوروبي صعوبات بالجملة خلال الأزمات الاقتصادية الأخيرة التي بدأت بأزمة 2008 وانتهت بأزمة كوفيد19، كل هذا أضعف الإتحاد وخلق فوارق عميقة بين أعضائه، وبعثر تماسكه، حيث قدمت بريطانيا استقالتها، وتقوقعت فرنسا حول نفسها. إن دور الإتحاد الأوربي بات خافتا وجد محدود، ومستقبله لا يبشر له بالخير، وستصبح أوروبا عما قريب دمية تتحكم بها خيوط الولايات المتحدة الامريكية من جهة، والصين وروسيا من جهة ثانية. فوق كل ذلك، فإن الأوضاع الاجتماعية بالدول الأوروبية لا تبشر بالخير، فهي الأخرى، حيث أن جد الدول باتت منشغلة مع أوضاعها الداخلية، حيث الأزمات المتوالية اشعلت فتيل الغضب في الشوارع.
الشرق الأوسط، مركز العالم، أو حلبة صراع جميع القوميات، بين الشام وتركيا وإيران وإسرائيل، تحدث أمور كثيرة، لقد تم تدمير العراق وسوريا، وتبين أن النفط لم يكن نعمة على الشرق الأوسط بل نقمة، تصارعت الطوائف وتمزقت البلدان برعاية روسيا وأمريكا، انفتحت إسرائيل على العالم أكثر، وعقدت اتفاقات مع دول عربية لتحبط جميع أشكال المقاومة ضدها، في حين مازالت ايران تقاوم ضد العقوبات المفروضة عليها وتأبى الاستسلام، أما تركيا، او ما يعرف بالعثمانية الجديدة مع رجب أردوغان، فلم تتردد في ان تتدخل في شؤون الدول المتصارعة وتكشف عن أطماعها
إن الشرق الأوسط وبعد كل ما شهده من صراع، ما زال التوتر يسيطر عليه، ولا تبدو عليه معالم السلام. العالم العربي عموما عبر تاريخه الحديث، حاول كثيرا أن ينهض ويعيد أمجاده، ومازال يحاول، لكن دون نتيجة. اخذ الربيع العربي الكثير والكثير من الشعوب العربية، ولم يمنحها شيئا بالمقابل غير الحروب والانقلابات والقمع والضياع والفقر والديموقراطيات المزيفة. ما زال العالم العربي يتخبط لتوحيد اقلياته الكثيرة وبناء وحدة صلبة تنافس على مستوى العالم وتدافع عن مصالحها.
من أبرز ما طبع العالم مؤخرا، وخاصة مع صعود الرئيس ترامب، وانتشار وباء كوفيد، هو تراجع الديموقراطيات في جل البلدان، لقد أعلن ترامب بكل صراحة عن انتهاء عهد أمريكا الديموقراطية، وأخذ يتهم ويهدد ويطرد ويعنف كل من اعترض مصالحه، في حين كانت سياسة الصين لمواجه الفيروس جد قاسية ولا إنسانية، أما البرازيل ففضلت المصلحة الاقتصادية دون أي وقاية من الفيروس، ما جعلها ثاني بلد من حيث الوفيات، أما الدول العربية فاستغلت فترة الحجر الصحي لتقمع جميع الأشكال الاحتجاجية وتفرض قرارات مرفوضة جماهيريا بحرية
مما طبع المشهد السياسي العالمي في الاواخر أيضا، المنافسة القوية التي تبديها الشعبوية داخل جميع الأطراف السياسية، فقد باتت الشعبوية تنافس الأحزاب العريقة في البلدان وتحقق نتائج غير متوقعة، وسواء كانت شعبوية يمينية تدعو الى نبذ الإسلام والأجانب والحد من الهجرة، أو شعبوية يسارية تدعو الى احترام حقوق الأقليات وحقوق الإنسان، أو حتى شعبوية دينية تستغل الدين والعاطفة لأغراض سياسية، فكلها شعبويات استغلت مبادئ الديموقراطية لتصنع لنفسها موضعا داخل الساحات السياسية.
مازال العالم يجتَّر اثار الاأزمة الاقتصادية لسنة 2008 حين ظهرت أزمة كورونا، ليدخل في متاهة أتلفت معالمه، حيث تغيرت اللعبة الاقتصادية حين بدأت الحكومات والمؤسسات المالية العالمية تتدخل لانقاد البنوك والدول المتضررة من الأزمة عبر تحويل رؤوس الأموال. لقد أنقد تحويل رؤوس الأموال البنوك من الإفلاس، لكنه خلق خلخلة في التوازن الاقتصادي العالمي، كانت له تداعيات عديدة، أبرزها ضرورة خوصصة القطاعات العامة، ما نتج عنه حركات جماهيرية رافضة في معظم الدول المتضررة.
الديكتاتورية الرقمية هي أداة جديدة دخلت الساحة السياسية وغيرت فيها الكثير، حيث تم خلق مصدر جديد للثورة هو المعلومة، حيث الشركات الكبرى تتاجر في المعلومات بمقابلات مادية هائلة، هذه المعلومات المعروفة بالبيغ داتا، يتم تطعيمها لبعض اللوغاريتمات المتطورة بغرض فهم سيكولوجية الأشخاص واستغلال ذلك في أغراض اقتصادية ربحية، حيث بات العالم كليا تحت امرة الاقتصاد، وأصبح من الماضي كل من فالفلسفة والفن وحتى العلوم والدين والأخلاق والبيئة، إذ لا دين للبشرية اليوم غير المال والاقتصاد، دين لا يراعي الأخلاقيات ويتجسس من خلال التكنولوجيات الحديثة على المستعملين لاستخلاص بياناتهم.
أخر ما تطرق إليه الكتاب هو ظاهرة الهجرة بين الماضي والحاضر، حيث ما يزال مفهوم الجنة الموعودة على الأرض قائما بدول الجنوب منذ عهد الاستقلال إلى اليوم بسبب الظروف الاقتصادية والاجتماعية المزرية، إلى انه وبعد إغلاق الدول الأوروبية وامريكا لحدودهم الجنوبية، باتت الهجرة مغامرة صعبة تخطف أرواح الشباب، وتعمق الفوارق الاقتصادية بين الجنوب والشمال.