في البدء يجب أن ندرك أن طبيعة تكوين المرأة متناغمةٌ تمامًا مع دورها المنوط بها، وهو رعاية الزوج والأولاد والقيام على شأن الأسرة كسقفٍ ظليلٍ وعمودٍ راسخ يعتبر بحقٍّ حجرَ الأساس في بناء المجتمع، وقد زُوِّدَتْ بجميع الصفات التي تجعلها قادرةً كلَّ القدرة على أداء دورها خاصةً من الناحية النفسية؛ فلها صبرٌ يتضاءل عنده صبرُ الرجال الأشداء، ولها حَدُّ تحمُّلٍ ينوء بالعصبة أولى القوة.
ومنذ فجر التاريخ وحتى بدايات القرن الثامن عشر والمرأةُ تقوم بدورها العظيم هذا، ولم تزدد مجتمعات العالم إلا تحضُّرًا ورُقيًّا؛ فقامت الحضاراتُ العملاقة، وحُقّقت الاكتشافات التي غيرت حياة الإنسان إلى الأبد، كل ذلك في غياب تامٍّ للمرأة عن معترك الحياة خارج مملكتها، وحضورِها الطاغي فوق عرشها ملكةً متوّجة لولاها ما استطاع الرجل أن يفعل معشار ما فعل.
ومع بدايات القرن الثامن عشر ابتليت قارة أوروبا بحروبٍ طاحنةٍ وأمراضٍ فتاكة حصدت أوراح عشرات الملايين وجلّهم من الرجال، فلم يكن للمرأة آنئذٍ من بدٍّ في أن تستجيب لحالة (الطوارئ) هذه وأن تهرع إلى الحقل وإلى المصنع وإلى المتجر لتسدّ تلك الثغرة النجلاء وتملأ ذلك الفراغ الكبير. وهذه باختصار حكاية خروج المرأة للعمل في العالم الأول، فقد كان خروجًا اضطراريًّا فرضتْه الحاجة وأوجبه الأمر الواقع، وكان من المفترض أن يعود الوضع إلى ما كان عليه بعد أن تعافت القارة مما أصابها ومضى زمن وضعت فيه الحرب أوزارها؛ إلا أن ذلك لم يحدث، بل استمرأت المرأة هذه التجربة الفريدة، وعزّز ذلك أيدٍ خفيّة تعمل في الظلام لها أهدافها التي تسعى لتحقيقها، وقد حقّقتها فعلاً في تلك البقعة من العالم، أما العالم الثالث فبحكم التبعية التي تجعل المغلوب في حكم الغالب وتحمله على أن يتبع سَننه حذو القذّة بالقذّة؛ انطلقت الحملات ذات اليمين وذات الشمال وارتفعت الأصوات منادية بـ (تحرير المرأة) والصحيح هو (استعباد المرأة) لأنها كانت حرةً في بيتها تأمر وتنهى، فإذا هي أسيرةٌ لصاحب العمل يأمرها وينهاها ويمتهن أنوثتها ويستغل حاجتها وله فيها مآرب أخرى.
وقد تعالت مؤخرًا بعض الأصوات في الغرب ذاته مناديةً بعودة المرأة إلى دورها العظيم في البيت، ومحذرةً من النتائج المروِّعة لتقويض أساس الأسرة وضياع النشء؛ إلا أن تلك الأصوات لم يكتب لها الانتشار الواسع لأن المسيطرين على الإعلام هم من طينة ذوي الأيدي الخفيّة التي ذُكرت آنفًا. أما في الشرق الحزين فقد اغتيلت الأصوات المماثلة بوابل من رصاص التهم الجاهزة (الرجعية والتخلف) رغم وضوح ما وصل إليه الغرب من تفكّك أسريٍّ أفرز ويلاتٍ متتاليةً على المجتمع لا يزال يئن تحت وطأتها.
تخيلوا معي أن المرأة لا تزال في بيتها، فما الذي سنربحه؟ سنضمن أولًا تماسك الأسرة وترابطها ونشوء الأطفال في بيتٍ ليس واهيًا كبيت العنكبوت؛ بل هو بيتٌ شديد كعرين الأسد، وسينشأ الناشئة في حضن أمٍّ رؤومٍ لا في حضن خادمٍ غشوم، وسيُتاح للشباب وظائفُ في كل مكان بدل أن تزاحمه المرأة في رزقه، وسيكون قادرًا على الزواج وتأسيس الأسرة، ولن نخسر شيئًا بغياب المرأة عن سوق العمل؛ إذ إن من أسباب البطالة الحاليّة توظيف النساء في وظائف يحسنها الرجال، وإذا بقي الوضع على ما هو عليه فستبقى الفتاة عانسًا لأن الشاب عاطل بعد أن أخذت هي وظيفته فأصبح غير قادرٍ تكوين أسرة.
ثم إني أستحلفكم بكل غالٍ لديكم أن تنظروا بعين الرأفة والرحمة لهذا الكائن الرقيق، تخيّل عزيزي القارئ أن عقيلتك أو كريمتك (the apple of the eye) كما يقول الفرنجة؛ تنعم بنومٍ عميق في إحدى الليالي، ويكتنفها شعورٌ طاغٍ بالدفء والطمأنينة والدّعة؛ لأنها تحت جناحك وفي حمايتك، تكفيها كل عَوَز، وتكفل لها الحياة الكريمة. ثم قُبيل انبلاج الفجر، حينما لا تزال الطير في وكناتها؛ تهبّ هذه المرأة الحالمة على صوت المنبه لتصطدم بالحقيقة: إن لديها عملًا يجب أن تذهب إليه!! وتبدأ في مسابقة عقارب الساعة في لهاثٍ مُضْنٍ تمخر خلاله بحورًا من السيارات والحافلات، سواءٌ كانت تقود سيارتها أو برفقة سائق أو (تتشعبط) في النقل العامّ، وتتأخر عن عملها بسبب الازدحام أو أي سبب آخر، وتصل المرأة المحترمة المعززة المكرمة في بيتها؛ تصل مقرَّ عملها ليستقبلها مديرٌ شرسٌ مُتَعَالٍ متغطرس ويقوم بتوبيخها لتأخُّرها، ثم يقوم بتهديدها بالحسم من الراتب أو النقل التأديبي، ثم يقوم بتكليفها بمهامَّ شاقةٍ جزاء فَعلتها الشنيعة تلك، وتضطر المسكينة إلى ابتلاع ذلك كله لتقوم لاحقًا بالبكاء في دورة المياه للتنفيس عن كربها، وهو أمرٌ طبيعي تفعله المرأة كل حين (نحن الرجال محرومون من هذه الميزة! ) ، وتُمضي عقيلتك أو كريمتك أيها القارئ الكريم ساعات العمل الطويلة متحفِّظةً في كل حركاتها وسكناتها وكلامها ولباسها؛ فهي في النهاية أنثى لا تستطيع - طبيعةً وعُرفًا ودينًا - أن تكون تلقائية في تصرفاتها تمرح وتضحك وتمزح وتعبّر بحركات جسدية حرّة أثناء الحديث كما يفعل الرجل، وهي كما ترون في سجنٍ مُمِضٍّ عيناها على عقارب الساعة تنتظر الإفراج عنها، وقد يكلفها المديد المتسلط بساعات عمل إضافية بذريعة (ما تقتضيه مصلحة العمل) لتنصرف بعد ذلك إلى منزلها وهي تترنح تعبًا وإرهاقًا لتجد بعلها أو أخاها أو صِبْيَتِها قد أنفقوا مبلغًا محترمًا على المطاعم لغياب ربة المنزل، وتُمسي حزينة كئيبة؛ فلا هي بالّتي أرضت رب عملها، ولا هي بالتي راعت شؤون أسرتها، فأصبحت كالمُنْبَتِّ لا ظَهرًا أبقى ولا أرضًا قطع. وأسألكم مرةً أخرى: بأي حق يتحكم هذا المدير الظالم بمن تطير دونهن الرقاب حِمِيَّةً وغيرة؟ بأي كتابٍ أم بأيّةِ سُنّةٍ تخضع له وتُداريه وتطلب ودّه ورضاه وتتحاشى إغاظته وترتعد فرائصها من غضبه؟! أَلِأَجْلِ تحقيق الذات؟ وما هذه الذات المازوخية التي تستلذ بالإهانة والإذلال؟ أم لأجل حفنة من الدراهم تنفقها صَدًى لصيحات الموضة أو تملأ به فراغات جسدها بالبوتكس والفيلر، أم لتدّخره إلى أن ينقضّ عليها الصيف فتختلس بضعة أيام تقضيها في الدول التي سوّقت لها ال (influencers) لتعود صفر اليدين أو مجللةً بالديون.
الواقعيةَ يا إخوان ويا أخوات الواقعية، كلّنا يعلم أن 90% من الموظفات هن على هذه الشاكلة، وأما العُشر الباقي فنصفه موظفاتٌ في مواقع لا يمكن أن يعمل بها غير المرأة، ونصفه نساءٌ غفلت عن حقيقتهن أعين الضمان الاجتماعي فرمى لهن بدراهم معدودة ثم تركهن وانصرف غير مبالٍ ولا مكترثٍ بل غيرَ واعٍ بأن هذا المبلغ الحقير لا يكفي لسداد فاتورة الكهرباء لأسرة متوسطة، فأُجبرن على الكدح إجباراً واضطُررن إليه اضطراراً، أما السواد الأعظم فهن كما ذكرتُ لا يحتجن الوظيفة إلا للرفاهية الكاذبة والمظاهر الخادعة.