يكاد الجميع يتفق على أهمية وجود صناديق راس المال الجريء في دعم المشروعات الناشئة. والمستثمر يرى بدون أدنى شك كيف تضاعفت أموال من استثمر في الشركات الريادية مثل أبل وفيسبوك وقوقل واوبر وكريم وسوق دوت كوم. ولذلك تسابقت الشركات الحكومية والخاصة على انشاء صناديق راس المال الجريء في السعودية رغبة في دعم قطاع ريادة الاعمال وتوطين التقنية إذا كانت حكومية واملا في تحقيق عوائد عالية غير اعتيادية إذا كانت خاصة. رغم ذلك، وبعد أكثر من ستة سنوات من بداية زخم رأس المال الجريء في المنطقة، مازالت الشركات الريادية تعاني من قلة التمويل، ومازالت الصناديق تعاني من قلة المستثمرين وفرص الاستثمار على حد سواء. وسمعنا عن أكثر من صندوق تمت تصفيته والاستغناء عن خدمات مدير الصندوق بسبب عدم القدرة على توظيف الأموال. مشكلة من هذا النوع تستفز العقل للتفكير لتحليلها والبحث عن حلول مجدية. سأتطرق للمشكلة من حيث تصميم نموذج الصندوق وكيف ممكن ان يساهم ذلك في إخفاق الصندوق إذا لم يختر النموذج الملائم للمنطقة.
النموذج التقليدي لصندوق راس المال الجريء في أمريكا هو ان ينشئه الشريك العام وهو صاحب خبرة متقدمة في الاستثمار وإنشاء الشركات ويجمع المال من المستثمرين المحدودين Limited partner مقابل 2% سنويا من حجم المال المستثمر كرسوم إدارة و20% من أرباح الصندوق والباقي يذهب للمستثمرين. يوجد عدد من الصناديق في السعودية اتخذت هذا النموذج، والسؤال هو هل هذا النموذج مناسب للسعودية؟ أعتقد ان هذا النموذج غير مناسب للسعودية في الوقت الحالي والسبب انه يستوجب حجم صندوق أكبر من غيرها لتغطية تكاليف إدارة الصندوق وربما أكبر مما يتحمل السوق.
كم أقل تكاليف ممكنة لإدارة صندوق راس المال الجريء بالنموذج التقليدي؟ اعتقد ان الصندوق المميز سيحتاج مالا يقل عن 1.5-2 مليون ريال سنويا تكاليف إدارة في المتوسط ما بين رواتب وإيجار ومصروفات إدارية.
وهذا يعني ان حجم الصندوق يجب أن يكون 75-100 مليون ريال. انظر حولك واحسب كم يوجد من صندوق في السعودية بهذا الحجم؟ والمشكلة التي سيواجهها الصندوق بهذا الحجم هو هل يستطيع استثمار هذه المبالغ في السوق المحلي؟ هل يستوعب السوق ضخ 100 مليون ريال استثمارات في شركات ناشئة خلال سنة او سنتين؟ هل يوجد لدينا شركات ناشئة قادرة على استقطاب هذه المبالغ؟ حتى يستثمر الصندوق 100 مليون ريال فهو بحاجة إلى شركات قادرة على تحقيق عوائد بأكثر من ملياري ريال (بافتراض ان شركات راس المال لن تمتلك أكثر من 30% من الشركة وأنها تتطلع لما لا يقل عن 7-10 اضعاف استثمارها). هل يوجد لدينا شركات بهذه الفعالية والكفاءة؟ هل السوق أصلا بهذا الحجم؟ لحل مشكلة الحجم لجأت بعض الصناديق لتوسيع النطاق للخليج او الشرق الأوسط وهذا يضاعف من تكاليف الإدارة ويلجئ الشركة لزيادة حجم الصندوق مما يوقعها في مشكلة جمع الأموال مرة أخرى.
ربما تكون هذه الحقيقة صادمة للبعض لكنها قد تكون السبب في اخفاق عدد من الصناديق في السعودية وإحجام صناديق أخرى عن الدخول. يبقى السؤال عن الصناديق الأخرى التي حجمها اقل من 100 مليون ريال بكثير: كيف تسدد تكاليف إدارتها؟ لجأت بعض الشركات لنموذج آخر لتقليل تكاليف الصندوق من خلال مشاركة الإيجارات والموظفين مع الشركة الام (شركة استثمارية مثلا) والاستفادة من خدمات مدير الصندوق في اعمال أخرى ليغطي تكاليفه وهذا يؤدي بطبيعة الحال لإضعاف أدائه لعدم التركيز. وبعضها سيلجأ لاستقطاب كفاءات متوسطة لتخفيض التكاليف مما يؤدي لإضعاف أداء الصندوق بسبب ضعف قدرة مدير الصندوق. في النهاية تكتشف الشركة ان الصندوق يحقق عوائد اقل بكثير من الصندوق العقاري في نفس الشركة فتقرر اقفال الصندوق وتحول مدير الصندوق للصندوق العقاري إذا لم تستغن عن خدماته. ومن أسباب تفاوت العائد ايضا هو اختلاف طريقة التقييم حيث ان صناديق راس المال الجريء لها عمر افتراضي يقدر ب 5-7 سنوات والعائد كله تقريبا يتوقع ان يأتي في السنة الأخيرة وهذا خلاف التقييم السنوي للصناديق الأخرى مما يجعل صندوق راس المال الجريء (حتى الكفء منها) يبدو غير مجد عند المقارنة المباشرة خصوصا في السنوات الأول.
النموذج الاخر المنتشر عندنا أيضا هو نموذج الصندوق الحكومي او الخاصGVC/CVC الذي ينشأ من قبل الجهة المستثمرة بدون مشاركة من مستثمر خارجي ويديره موظفو القطاع او الشركة. الفرق الرئيسي هنا ان أكثر العائد يذهب للمنظمة ولا يوجد رسوم إدارية. والرواتب وتكاليف إدارة الصندوق تدفع من قبل المنظمة وليس من راس مال المستثمر. وهذا خلل رئيسي في حساب عائد الاستثمار لأنك لم تحسب جميع التكاليف فتبدو لك العوائد أعلى من الحقيقة. الإشكالية الأخرى هي في استقطاب الكفاءات. إذا كان مدير الصندوق المحترف سيحصل في السوق على 20% حوافز أداء والصندوق الحكومي/الخاص لن يقدم هذه الميزة فغالبا لن يستطيع استقطاب هذا المدير المتميز مما يعني ضعف جودة الإدارة وبالتالي انخفاض الأداء. الإشكالية الأخيرة لهذا النموذج هو في الية اتخاذ قرار الاستثمار حيث انها تحال غالبا للجنة استثمارية مكونة من التنفيذيين في الشركة/القطاع الحكومي ممن لم يعتادوا على تقييم الشركات الناشئة. فمدير الصندوق المتخصص في الحقيقة لا يملك القرار النهائي بينما يملكه من لم يمارس هذا العمل في حياته.
تضح من التحليل السابق ان مربط الفرس لاستقطاب الاستثمارات هو حجم السوق، وحجم السوق يتأثر بحجم الاستثمارات أيضا مما يوجد مشكلة البيضة والدجاجة. أيها يفترض أن يأتي أولا؟
اعتقد ان كل النماذج الثلاثة السابقة (التقليدي، جزء من شركة استثمارية، صندوق حكومي او خاص بميزانية مشتركة وقرار استثماري مشترك) من الصعب نجاحها في السعودية ونحتاج لنموذج آخر قليل التكاليف ومرتفع العوائد.
النموذج الأمثل في نظري هو نموذج التنفيذي المتقاعد. وأعني به أن يؤسس تنفيذي سابق في شركات كبرى مثل أرامكو وسابك والاتصالات صندوقا استثماريا للاستثمار في المجال الذي يتقنه. المدير تنفيذي متقاعد فليس بحاجة لرسوم إدارية عالية لأنه ثري او لديه راتب تقاعدي كاف. بمعنى اخر تكلفة الفرصة البديلة لهذا الشخص منخفضة لأنه لن يذهب ويعمل بدوام كامل في شركة أخرى. في نفس الوقت سيمارس شيئا يحبه وفي نفس مجاله. أعتقد ان هذا النموذج أقرب للنجاح لسهولة استقطاب رؤوس الأموال بحكم الخبرة والعلاقات السابقة للمدير، وقلة تكاليف الإدارة من ناحية أخرى. وقدرة المدير العالية على إرشاد الشركات ومساعدتها على النمو. عدد من صناديق راس المال الجريء في أمريكا في السبعينيات الميلادية بدأت بهذه الطريقة ولازالت حتى الان طريقة مشهورة. مجموعة من المتقاعدين الأثرياء الخبراء الذين يريدون أحداث أثر أكبر في السوق.
الميزة الأخرى في نموذج التنفيذي المتقاعد هو ان خبرته ليست في البنوك او المالية فقط وانما في صميم عمل الشركات الناشئة فهو أدار وأنشأ عدد من الشركات والمشروعات من قبل فلدية خبره كافية في التأسيس والنمو والتوظيف والبنية التحتية عموما. القيمة التي يقدمها للشركات ليست مالية فقط كعادة مدراء الصناديق ذوي الخلفية البنكية. رسوم الإدارة في هذا الصندوق ممكن تكون أقل بكثير من 2% مما يتيح حجم صندوق أصغر، بينما حصة المدير من الأرباح ممكن تكون أعلى من 20% لأنه يأخذ مخاطرة اعلى.
الخلاصة حتى يستطيع مدير صندوق راس المال الجريء جمع مال (جريء) يحتاج ان يكون المدير نفسه جريئا لا موظفا! ويحتاج ان يكون مدير صندوق حقيقي يتخذ القرار بمعزل عن الميزانية العامة للشركة او الجهاز الحكومي.
محمد الصبيح
10/30/16